السبت، 26 مايو 2012

محاولة في قراءة الاستقلال الفكري في التراث

سليمان الصيخان

تقدمة:
- العنوان يتحدث عن “محاولة” ليس أكثر..
- الغرض من السؤال ليس تأريخا بحتا بل محاولة مقارنة بما يجري من اتصال دائم وكلي بالفكر الأخر(=استثمار التجربة التاريخية) كما سنشير أخر الورقة.....

- هناك تنبيهان أو لنقل ملاحظات على المستوى المعرفي، لمحاولة الانتباه للصعوبات التي يواجهها أي باحث حين البحث في التاريخ الفكري، في تأريخنا أو تاريخ غيرنا:
أ- هناك مشكلات عديدة تكتنف محاولات القراءة المشابهة التي تبحث في فترات زمنية مختلفة، ويمكن تلخيص هذه الصعوبات بمقولة لدوركهايم نقلها أحد الكتاب، ملخص الفكرة: أنك حين تدرس شخصيات متقدمة عنك زمنيا، أي أنها في زمن ثقافي مختلف، فأنت ستكون بين احد خيارين:
١- إما أن تستعمل نفس “مصطلحاتهم” وتراكيبهم الفكرية من اجل توضيح دقيق أو لنقل “تجسيم” الفكرة كما كانت، وهذا الخيار مشكلته أن الطرح سيكون ربما صعبا نظرا الاختلاف المجال التداولي، وسيعطي انطباعا بلا معاصرة تلك الشواغل.
٢- والخيار الأخر هو القيام بتحديث تلك المصطلحات واستعمال مصطلحات ومفاهيم معاصرة، وهنا ستحدث مشكلة أخرى أعمق وهي الخوف من الإضافة أو التحريف في المقاصد الأولى، فالمصطلح تتكون أمشاجه من مواد تداولية أكثر منها معرفية محضة.

ب- الأمر الثاني يقول الناقد الفرنسي لوسيان غولدمان: ”المهم ليس الفكرة في حد ذاتها بل المهم إدخالها في نسق عام أو جعلها أساسا لنسق جديد”. هذا يفيدنا أهمية فهم السياق التي تتولد فيه الأفكار أو تنمو أو تتغير أو تتطور..وليس المهم الفكرة ذاتها لأنها بدون سياقها ستتعطل فاعليتها، فقط فالأفكار قد تكون معروفة من قبل لكن أهمية إعادتها تكمن في وضعها بسياق ما يفتح إمكانيات الفكرة على أفاق جديدة منتجة.

تمهيد موضوعي:
كان وجود الفلسفة في المجال الإسلامي متجليا من خلال تمظهرين: فأولا ظهرت متلبسة بعلم الكلام (تقريبا كانت في الغالب على يد مفكري المعتزلة)، ثم ظهرت مرة أخرى باللباس الفلسفي (الإغريقي) المباشر، على يد (الكندي) أول فيلسوف خالص عربي، ويمكن اعتبار الظهور الثاني ناتجا عن الظهور الأول أو تطور لصياغاته وأسئلته، فتعاطي الجدل الكلامي حول الصفات الإلهية وعلاقتها بالذات الإلهية من جهة وببعضها من جهة اخرى وبالوجود من جهة ثالثة كل هذا أنتج أسئلة وجودية ومعرفية أساسية أدت بشكل ضروري لميلاد الفلسفة الإسلامية.

إذن: ١- كان الجدل الكلامي عاملا أساسيا. ٢- ويمكن اعتبار الجدل السياسي حول قضايا العدل والحكم ومواصفات الحاكم وعلاقة الدولة بالمجتمع..الخ عاملا أساسيا آخر، وهذا يتجلى بارزا بأحد الأعمال الأساسية الفلسفية المبكرة وهي أعمال الفارابي الذي يمكن اعتبار فلسفته فلسفة سياسية بامتياز. (سماه الدكتور محمد بو هلال في أحد اعماله: الكلام السياسي).

ما الذي ولد الجدل الكلامي/المعرفي (= التجريدي)؟ سبق أن قيل أن الكلام المبكر ظهر ردة فعل لتحولات سياسية مبكرة أيضا (الكلام السياسي)، لكن (المنعرج المعرفي) لعلم الكلام ظهر لاحقا حيث تكونت النظريات الكلامية كمعرفة منظمة ونسقية، يمكن اعتبار أن الاعتراضات الفلسفية التي عارضت القرآن سببا أساسيا أيضا، كتب ابن الريوندي كتبا عديدة نقدية للدين، منها كتابه (الدامغ) في نقد القران، وكتب الرازي كتبا مادية عديدة في نقد الرسل، والطعن بالقرآن والبعث… إلخ، وغيرها الكثير مما كان يعتمد على مقولات عقلية لنقد الشرائع والأديان.

كان علم الكلام محاولة أولى للدفاع عن العقائد بالعقل، ولاشك أن قرّاء الخطاب الكلامي يعرفون أن مفكري المتكلمين استعانوا بمقولات كثيرة من جنس الجوهر الفرد والعرض والجوهر – مقولات مستعارة من التراث الإغريقي، لكن بشكل جزئي، ومن نسق غير النسق الأرسطي، لكن في نهاية المطاف المتكلمون يؤمنون بالعقيدة ويدافعون عنها بالمقولات العقلية، فالعقائد لديهم أولا.

ولكن كان الفارابي وابن سينا وعموم الفلاسفة يرون أن إمكانات الكلاميين العقلية لا تفي بالغرض ولا تمكنها من إنجاز رؤى فلسفية دينية متسقة تبطل النزعات المادية في نقد الأديان، هنا تبرز لنا هذه المسألة بوضوح: الاستعانة بعناصر إغريقية لبناء منظومة نسقية للدفاع عن الدين السائد. سنستعرض أربعة مواقف مختلفة من ادماج أدوات ومقولات فكرية منقولة من مجال فكري مختلف. لا أدعي أنها هي كل شيء وأنها هي الأهم فقط، لكن يمكن الادعاء أن هذه العينات المرصودة هنا تمثل إتجاهات كبرى في التراث: ١- الفارابي (٢٥٩-٣٢٩)، ٢- الغزالي (٤٥٠-٥٠٥)، ٣- ابن رشد (٥٢٠-٥٩٥)، ٤- ابن تيمية (٦٦١-٧٢٨).

وسيكون الرصد فقط لما تميز به كل اتجاه، آو لنقل الإضافة الأساسية في موقفه من هذه المسألة.

أولا، الفارابي: المعلم الثاني كما يقال، وفيلسوف الإسلام الأول (الكندي قبله لكنه كان يسمي فيلسوف العرب، لأنه عربي الأصل خلافا للفارابي، والكندي كان أقرب للمعتزلة)، وتبعه على نفس الخط الفيلسوف الكبير ابن سينا، حتى أصبحا ممثلين لمنظور واحد غالبا. ما هو موقفهما تحديدا؟

لنأخذ مثالا: لقد أراد الفارابي وابن سينا التخلص من صعوبات عديدة أمام بعض العقائد الأساسية في الإسلام، مثل “الخلق والنبوة”، فقد لاحظا أنه من الصعوبة قبول الرأي الكلامي القائم على الإقرار بإله يتصف بالخلق إبتداء،ً فلجأ الفارابي وابن سينا إلى استعارة مفهوم إغريقي شهير وهو مفهوم (الفيض) فالخلق عندهم هو الفيض، الفيض رغم كونه مقولة إغريقية ألا انه من أهم مفاهيم الفلسفة الفارابية والسينوية، ومعناه: أن العالم فاض عن الرب سبحانه بدون إرادة منه، فهم يرون أن تعلق إرادة القديم الكامل بمخلوق هو نقص، لهذا تجنبوا القول بالخلق ولجأوا إلى الفيض، وبالعودة إلى جذوره الأساسية (لدى أفلوطين) فالفكرة تقول: أن هناك ذاتا عاقلة كاملة (الرب) تفكر بذاتها الكاملة فقط، لأن تفكيرها بغير الذات نقص تتنزه عنه هذه الذات عاقلة الكاملة. وقد فاض العالم من تفكير هذه الذات في نفسها، والفيض هنا يشبه فيض أشعة الشمس منها، فهو ليس مرادا للشمس وإنما فاض منها، فالعالم فاض من هذه الذات كما تفيض أشعة الشمس منها، ومن هنا نفهم مقولات الفلاسفة حول تحرك الأفلاك بدوافع العشق و التعشق لهذه الذات، فالذات الكاملة لا تحرك العالم بشكل مباشر، بل العالم يتحرك من خلال تعشقه لها، كما يتحكم المعشوق بعاشقة بدون قصد منه.

الأمر الأخر الذي عالجته الفلسفة الفارابية/السينوية هو مفهوم النبوة. فتجاوزا للصعوبات التي تعترض القول بالاتصال المباشر بين النبي والملك، لاختلاف جوهرهما، استعار الفارابي – مرة أخرى – مفهوم أخر وهو (العقول العشرة) وتعني ببساطة أن العقل الأول فاض عنه عقل أخر- مفهوم الفيض السابق بيانه – وعن العقل الثاني فاض عقل آخر، وصولا للعقل العاشر وهو ما يسمى العقل الفياض، والذي يقوم بعملية فيض للحكمة فتتلقاها مخيلة النبي، والنبي أسس جهوزيته من خلال الرياضات التي تجعله قادرا على اكتساب هذه الفيوضات وبالتالي “اكتساب النبوة”، فالوحي ليس مفهوما خارجا عن القدرة البشرية بل هو تجلي للروح التي اكتسبت شفافية عالية وروحانية ترفعها عن مستوى المادة الخسيسة ..الخ، بينما الفيلسوف يقوم بعقله بالبحث والوصول إلى هذه الحكمة التي يفيض بها العقل الفياض.

المهم، كان الدافع الأهم لدى الفارابي وابن سينا هو عقلنة العقائد الدينية وفقا للمنظور الإغريقي، باختصار كان برنامج الفارابي وابن سينا هو: (بناء الملة على الحكمة)، فالحكمة (=الفلسفة) هي الأصل اليقيني، والشريعة تبنى على هذه الفلسفة.

لكن قبل تجاوز هذه الاتجاه أود التنبيه إلى أن الفارابي، والكندي قبله، وابن سينا بعدهم، لم يكن قصدهم خصومة الشريعة ومناقضتها، كما يظن الكثير من الباحثين، بل كانوا كلهم يحاولون الدفاع عن الملة ورد النقض العقلي الذي أبرزه خصومها من الماديين آنذاك، كان غرضهم بناء فلسفي متماسك للتوفيق بين العقل والنقل، وبغض النظر عن الإخفاقات التي صاحبت الكثير من تلك الاجتهادات ألا انه من المهم إيضاح مقاصدهم النبيلة، وهذا التنبيه نقله عبدالله العروي في كتابه “مفهوم العقل” عن سليمان دنيا في كتاب له عن محمد عبده.

إذن، (إعادة بناء الملة على الحكمة) هي العنوان الرئيسي لبرنامج الفلسفة الفارابية والسينوية، و هي التي تمثل – من وجهة نظر الباحث – احد الأركان الأساسية الأربعة للخريطة الفلسفية الإسلامية.

الاتجاه الثاني، هو اتجاه أبي حامد الغزالي: من الصعب جدا الحديث عن أبي حامد الغزالي في عجالة، فهو أضخم من أن يتم الحديث عن مسيرته المعرفية ونظرياته العلمية ومقولاته العقلية باختصار، موقف أبي حامد من الفلسفة قبله، وأثره على الفلسفة فيما بعد كبير، أثر أبي حامد الغزالي على ابن رشد، وعلى شيخه من قبله ابن طفيل، وأثر أبي حامد على ابن تيمية. ترجمت بعض أعماله مبكرا وكان له أثر على ما سمي لاحقا بالأفلوطنية المحدثة في القرون الأوربية الوسطى.

على كل حال… ليس الكلام الآن في مديح “عقل الغزالي” بعامة، بل فقط بغرض تحديد جواب الغزالي عن السؤال الأساس: علاقة الدين بالفلسفة الإغريقية. مارس الغزالي نقدا عميقا منطقيا ولغويا وعقديا للمقولات الفلسفية، وارتكزت المقولة الغزالية الأساسية على “عجز العقل” في فض نزاعات الميتافيزيقا، وهو ما اسماه الغزالي (تكافؤ الأدلة) أي تماثلها من جهة القوة وتعارضها من جهة الدلالة، وهو ما اسماه كانط فيما بعد (نقائض العقل) أي تناقضاته في الدلالة.

كتب الغزالي كتابه المركزي (تهافت الفلاسفة) لنقض الفلسفة الفارابية والسينوية على وجه الخصوص، وخلص إلى مقولته الأساس: “العقل الأرسطي والمنطق الإغريقي منطق محايد في الأساس، وليس له موقف ديني، وبالتالي فهو مفيد جدا في الموضوعات المحايدة وهي الرياضيات، أما في الإلهيات فالمنطق والعقل عاجزان تماما عن ذلك”. إذن المنطق الأرسطي كآلة مقبول، والإلهيات والطبيعيات الفلسفية والأرسطية مرفوضة تماما بدلالة العقل ذاته. (الغزالي في كتابه القسطاس المستقيم يقول أن أرسطو اخذ قواعد المنطق عن إبراهيم عليه السلام!).

كتب الغزالي كتابه الجليل (المنقذ من الضلال) وهو عبارة عن سيرة ذاتية فكرية، بالغ التشويق والإثارة، حكى فيه وقوعه في الشك المطلق في العقل والحس والأفكار، وكيف خرج من هذا الشك إلى بر الأمان. في (المنقذ من الضلال) قرر الغزالي بشكل واضح وصريح تفريقه بين المنطق كآلة مجالها الرياضيات، وهي آلة عقلية تعصم الذهن من الخلل وعلى حد عبارة الغزالي (لا يوثق بعلوم من لا يعرف المنطق)، بل وحاول إحداث نُقلة في علم الأصول الفقهي الإسلامي حيث ادخل – لأول مرة – المنطق وجعله مقدمة لعلم الأصول. ففي كتابه الكبير- الذي سيختصره ابن رشد لاحقا: “المستصفى في أصول الفقه” جعل له مقدمة منطقية. واضطر الأصوليون فيما بعد للاستسلام لثورة الغزالي تلك، فحتى الحنابلة اضطروا لقبول ذلك الدمج بين الأصول والمنطق فنجد ابن قدامه الحنبلي يختصر المستصفى بكتابه “روضة الناظر” ويجعل في تقدمته مختصرا منطقيا (هل استفاد الاصول من ذلك؟ هل فعل تم استدماج المنطق في الأصول؟ مسار علم الأصول يشير إلى النفي والله اعلم لتنافي طبيعة المجالين ووظيفتيهما. انظر مقارنة د.حمو النقاري للغزالي وابن تيمية وشيشرون عن مدى صلاحية استعمال المنطق للقانون).

طبعا العبقرية الغزالية لم تكتفي بادعاء تحييد المنطق مبدئيا، بل ومارس الغزالي توظيف المنطق عمليا، وحاول تخفيف التجريد العقلي من خلاله وذلك بضخ المصطلحات والأمثلة القرآنية كما في كتابه “القسطاس المستقيم” وهو محاولة تقريب تداولي (راجع تجديد المنهج، طه عبد الرحمن).

فصل العقل والمنطق الأرسطي كآليات محايدة، وقبول تشغيلها في التداول العربي والإسلامي، ورفض نتائجها الأرسطية في الإلهيات وعموم الميتافيزيقا:
هذه هي إستراتيجية برنامج الغزالي في الجواب عن سؤال “الاستقلال الفلسفي”.

تلخيص الفارق بين الاتجاه الأول (الفارابي) والثاني (الغزالي): الفارابي تقبل كل المعطى الإغريقي واعاد بناء الملة الإسلامية على الفلسفة الإغريقية؛ الغزالي رفض المعطي الإغريقي في مجال الإلهيات والميتافيزيقي وبعض التفصيل في الطبيعيات، وتقبل المنطق الأرسطي باعتباره آلة محايدة يمكن تشغيلها بعيدا عن الغيب والميتافيزيقا.

***

فيما سبق تعرفنا إلى أسباب دخول التفلسف إلى المجال الإسلامي، وتعرفنا إلى تجلياته، ثم تعرفنا إلى برنامج الفارابي وابن سينا ببناء الملة على الحكمة، ثم برنامج الغزالي بالتفريق بين الأدوات المحايدة – في نظره – وهي المنطق وبين الآراء الفلسفية الإغريقية في الإلهيات: رفض الميتافيزيقا وقبل المنطق.

هناك من يعتقد أن أباحامد الغزالي تقدم كثيرا في فهم المنطق والتفلسف (درسها في ثلاث سنوات كما حكى عن نفسه)، وأبصر أشياء في العمق،ل كنه عجز عن إدراك أشياء أخرى بشكل دقيق، عجز عن إدراك الارتباط الوثيق بين المنطق والفلسفة وسياقهما الثقافي، وتوهم أن المنطق محايد ولا دين له، بمعنى آخر: أن المنطق اليوناني قانون كوني يشمل كل الأفراد، هذا هو السر. سيتضح هذا لاحقا أكثر

٣- لنرجع الآن إلى الركن الثالث من أركان القول الفلسفي الإسلامي، ألا وهو ابن رشد، أبو الوليد ابن رشد قاضي قرطبة. ماذا قال ابن رشد؟ ما هو برنامجه تجاه سؤالنا؟

أولا: هل مر ابن رشد في حياته الفكرية بمراحل عدة؟ أم مرحلة واحدة؟

يمكن للمهتم أن يرجع إلى أهم باحث معاصر اشتغل على ابن رشد وهو المرحوم جمال الدين العلوي في أعماله الرشدية، وأهمها في كتابه (المتن الرشدي)، كتاب تضمن دراسة دقيقة عن مراحل تطور الحياة العلمية لابن رشد ومراحل كتبه وقصة كل كتاب وعلاقة كل كتاب بمشروع ابن رشد. خلاصة الأمر ستجد أن ابن رشد له مراحل عدة، ويهمنا أن موقفه من الغزالي في أول حياته مختلف عن موقفه فيما بعد.

لقد كان يعتبر الغزالي أحد مصادر المعرفة بالنسبة له، وقام بتلخيص كتابه في الأصول ونسج احد كتبه (السماء والعالم) على طريقة كتاب (مقاصد الفلاسفة)، بنفس الوقت الذي لخص فيه كتب أرسطو، فيما بعد قرأ أبن رشد كتاب الغزالي (تهافت الفلاسفة) وعرف أن الغزالي ناقش مسائل جدية، وأن الغزالي مارس نقدا علميا، فما كان من ابن رشد ألا أن غير الإستراتيجية، وتبنى المنظور التأويلي، هنا طرح مشروعه في كتابين: (تهافت التهافت) و(فصل المقال بما بين الشريعة والحكمة من الاتصال)، وخلاصة مشروع ابن رشد التأويلي هو: الفصل بين مسار الشريعة ومسار الحكمة.

الشريعة لها أدواتها وسياقها ومسائلها والفلسفة لها أدواتها وسياقها ومسائلها، يجب الفصل بينهما في المعالجة والبحث، ولا يجوز القيام بأي تقاطع أو تداخل بحثي بينهما، وأن هذا التداخل ضار بالفلسفة وضار بالشريعة. فهما أختان من الرضاعة (تساءل أبو يعرب المرزوقي إذا كان أختان من الرضاعة فمن هي الأم المرضعة؟!)، لكن مساره كلاهما طريق منفصل عن الأخر، لكن النهاية واحدة والغاية واحدة: سعادة الإنسان ونجاته، والخلط بين المسارين سيفسد عليه الطريقين إلى النجاة. الحكمة تخاطب الخاصة والشريعة تخاطب الخاصة والعامة. لهذا كان ابن رشد فقيها، فكتب كتابه الكبير (بداية المجتهد) في الفقه، وكتب مختصر في الأصول والنحو واللغة هي أدوات الفقه والشريعة. الطريف أن تأليف ابن رشد لبداية المجتهد كان محل استغراب لدى البعض، وتهور حسن حنفي ونفى كون “بداية المجتهد” لابن رشد، معللا نفيه بكون مشاغل هذا الكتاب تخالف اهتمامات ابن رشد، وكذلك زكي نجيب محمود، وغريب منهما ألا يفهما ان أعماله التشريعية متوافقة مع خطابه بشكل تام: هناك ابن رشد الفقيه، وهناك – نفسه – ابن رشد الفيلسوف.

أراد ابن رشد أن يورط الغزالي، ويقول له: لا يجوز لك أن تعالج الفلسفة بأدوات الشريعة، ولا أن تجعل الشريعة معيارا لنقد الفلسفة. لقد كان ابن رشد “يزعم” أن الإغريق لم يكونوا مهتمين بالسؤال عن الله، بل سؤالهم فقط عن الوجود؛ وليس عن موجد الوجود، لهذا لا يوجد لدى الإغريق مشكلة مع الدين، لأنه ليس معارضا لهم، بل يمكن أن يكون مكملا لهم، هكذا قال.

لقد اشتغل ابن رشد على تحرير آراء أرسطو، وكشف التحريف الذي لحقها على يد ابن سينا والفارابي، لأنهم شرحوا أرسطو على ضوء أفلوطين، وهما مشروعان متنافران حسب ابن رشد. تلخص مشروع ابن رشد في تلخيص أرسطو وشرحه (ولهذا سمي الشارح الأكبر) وتلخص جوابه في سؤالنا الأساس (علاقة الدين بالفلسفة): بوجوب الفصل بينهما. لقد أراد ابن رشد أن يفض الاشتباك من أساسه. أراد أن يلغي كل الحلول التوفيقية أو التلفيقية. رفض موقف الفارابي وابن سينا لأنه تحريف للملة. ورفض موقف الغزالي انه تحريف للملة والحكمة، تحريف للفلسفة والدين – من وجهة نظره. واقترح – بل أوجب – لحفظ الدين وحفظ الفلسفة: الا نخلط في المعالجة بينهما، من خلال:
- استعمال أدوات كل واحد منهما في مجاله بدون تعدية.
- إثبات أن الفلسفة الأصيلة (الأرسطية) لم تشتغل بالميتافيزيقا والدين.

ولهذا يرى ابن رشد أن أرسطو ليس له كلام في قدم العالم أو حدوثه، وإنما استثمر ابن رشد مقولاته في الصور وأولها، كالخروج من العدم: فهي خلق قديم أو خلق مستمر كما يعبر ابن رشد.

قبل تجاوز ابن رشد، لنشير إلى كون ابن رشد اشتبك مع الغزالي بشكل شرس حول مفهوم (السببية في مجال الطبيعيات)، فالغزالي استنكر القول بها ورفض أي ربط منطقي لزومي بين السبب والمسبب، واستغل ابن رشد هذا الموقف من الغزالي ليجعله منافيا للعقل السليم وضررا على الدين.

السؤال: هل كان ابن رشد مستقلا أم مقلدا؟ هل هو أشد تقليدا من المشائين العرب الأوائل أم أكثر إستقلالا منهم؟ هناك من يرى ابن رشد اكبر مقلد في الثقافة العربية، فابن سبعين يقول: “أن هذا الرجل لو سمع أرسطو يقول أن الواقف قاعد في وقت واحد لقال بقوله”، ويرى طه عبد الرحمن أن ابن رشد من شدة تقليده انه قم بتنظيف آراء أرسطو من إضافات الفارابي وابن سينا التي أخذها من ثقافتهما القرآنية وأصر على جعل الأرسطية تقليدا محضا، وهناك آخرون مثل المرحوم د.محمود قاسم يرون وجوب التفريق بين ابن رشد الشارح وابن رشد الفيلسوف. مهما يكن من أمر ليس موضوعنا الكلام عن ذلك ألا بما يخدم سؤالنا الأساس.

على أية حال، لإكمال الصورة حيث بقي لنا إيراد الجواب التيمي على السؤال الأساس: “علاقة المنطق والفلسفة الأرسطية بالدين”؟ أو كما سميناه: “سؤال الاستقلال الفلسفي”.

تعرفنا على ثلاثة نماذج أجوبة هي الأهم في التاريخ الإسلامي وهي حسب الترتيب التاريخي: (١) جواب الفارابي وابن سينا: بناء الملة على الحكمة. (٢) جواب الغزالي: التفريق بين الأدوات الإغريقية (المنطق) وبين النتائج الإغريقية (الميتافيزيقا)، فالمنطق محايد كوني، ونتائجه الرياضية قطعية، بينما الميتافيزيقا ثقافة إغريقية وثنية وضعية، وكذلك الطبيعيات الإغريقية ليست مقبولة بإطلاق بل بفحص وتفصيل. (٣) جواب ابن رشد: التفريق بين المجال الدين والفلسفي، الدين له أدواته ومجاله ولا يجوز إخضاعه للفلسفة، والفلسفة لها أدواتها ومجالها ولا يجوز إخضاعها للدين، لان ذلك إفساد لها وللدين.

جاء بعد ابن رشد ابن تيميه، أبو العباس احمد بن عبد الحليم، الذي ولد في حران عاصمة الفلسفة التي ترجمت كتب التفلسف، وكانت أسرته أسرة عريقة في العلم و التمذهب الحنبلي، وأيضا اشتهرت أسرته بأن منها علماء رياضيات.

في سياق سؤالنا: ماذا لدى ابن تيمية؟ لقد لاحظ ابن تيمية خطأ نظرية الغزالي في ظنه أن المنطق محايد وكوني، وغالب جهد ابن تيمية النقدي يؤول إلى البرهنة على أن المنطق الأرسطي هو “النحو الإغريقي”، أي قواعد اللسان الإغريقي، قواعد اللغة الإغريقية، وأنه ليس قواعد عقلية مطلقة وعامة. وابن تيمية يعي تماما أن اللغة ليست مجرد وعاء للفكر. لاحظ ابن تيميه أن المنطق الأرسطي كله يقوم على فكرة أساسية وهي “أسبقية الأفكار الكلية على الواقع” فالأفكار لدى أرسطو “واقعية”، بينما ابن تيمية ينتمي الى الاتجاه “الاسماني” أي أن الأفكار مجرد أسماء، والواقع كله جزئي متعين.

ابن تيمية – ومثله ابن خلدون – يرون أن المنطق الأرسطي كله راجع لهذه المقولة، وهي مقولة ذاتية بالثقافة الإغريقية القديمة التي ورثها أرسطو عن أفلاطون، وورثها أفلاطون عن الميثلوجيا الإغريقية القديمة! صحيح أن أرسطو ثار على أفلاطون في مقولة المُثل لكن بقيت هذه المعضلة في تفكيره، لأنها في بنية اللسان الإغريقي ولا يسعه الخروج منها. أفلاطون يقول بجود خارجي للكليات وأرسطو يقول بوجود محايث، ويقول الباحثون انه في حقيقة الأمر لا فرق بينهما.

الخلاصة، أقام ابن تيمية البرهان على خلل المنطق وبنيته اللغوية ليثبت مخالفته للسان العربي ونقده عقليا ليثبت عدم كونيته المدعاة، وجعله سببا للانحرافات التصورية الإغريقية. ويقول ابن تيمية للغزالي: لو كان المنطق معصوما من الخلل، فلماذا انحرفت الرؤية الإغريقية للعالم؟!

ما هو إذن برنامج ابن تيمية؟ هو عكس برنامج الفارابي تماما: بناء الحكمة على الملة؛ إعادة تأسيس الفلسفة الإسلامية على الدين كمصدر للثقافة العربية والإسلامية. فالدين هو الأصل، النص هو الأصل، والتفلسف هو الذي ينبني على النص وليس العكس.

يشير عبد الحكيم أجهر إلى إن ابن تيمية مد المغامرة الفلسفية إلى مديات لا يكاد يجرؤ عليها أحد من المتكلمين أو الفلاسفة الإسلاميين. لقد فهم ابن تيمية مقولات الفلاسفة وفحصها بشكل مذهل، وتجاوز مقولات الكندي والفارابي وابن سينا، واقترب في بعض نتائجه من ابن رشد في مسألة أزلية العالم. لقد كان أغلب الفلاسفة يقولون بقدم العالم، وجاء فلاسفة الإسلام فتورطوا، هل يقولون بقول شيوخهم الإغريق وشراحهم؟ أم يقولون بظاهر القران، أن الله هو الخالق؟ أما الكندي فاخذ بقول القران صراحة، وأما الفارابي وابن سينا فلجأوا إلى نظرية” الفيض” كما سبق إيضاحه، وأما ابن رشد فطور مقولة أرسطو في الصور وقال بالخلق المستمر آو الخلق القديم، وأما الغزالي فاخذ بظاهر القران وكفَّر الفلاسفة بهذه المسألة، وكل علماء الكلاميين من المسلمين (المعتزلة، الأشاعرة، الشيعة) يقولون بظاهر القران.

أما ابن تيمية فقد وقف بصلابة ضد مقولات (الخلق من عدم) التي رامت الدفاع عن وحدانية الله، لقد اخذ – تقريبا – بقول ابن رشد لكن ليس لكونه قول ابن رشد، وإنما لكونه يراه هو ظاهر القران، وقال أن جنس العالم لا بداية له دون أفراده، وان الله لا يخلق من العدم (مقولة المعتزلة بشيئية المعدوم تخدم هذا القول مع اصرار الاعتزال على ان العالم مخلوق وله بداية). يمكن الزعم أن رؤية ابن تيمية للعالم تتمتع بتماسك ذاتي كاف يقوم على أسس فلسفية ومنطقية واضحة المعالم وصلبة.

الفارق النظري بين ابن تيمية وابن رشد، أن الأخير جعل العقل مجاورا للدين ظنا منه أن هذا هو المسلك الإغريقي؛ بينما ابن تيمية جعل العقل مطابقا للنص وامتدادا له بدون أي تناقض ولا تنافر، وكانت مقولته الشهيرة دوما: (الشرائع لا تأتي بما تحيله العقول، بل تأتي بما تحار فيه العقول).

إذن ملخص البرنامج التيمي هو إعادة بناء الحكمة على الملة، وهو بهذا يقطع الصلة تماما بأي مشروع آخر ليس أصيلا في المجال العربي الإسلامي، وهذا التوضيح يجعل البعض يرون أن مشروع ابن تيمية هو المشروع الوحيد إلي يمكن أن يسمى انه فلسفة إسلامية كاملة، بينما الفارابي جعل العقل الإغريقي هو الأصل، والغزالي جعل المنطق الإغريقي محايدا وبالتالي العقل الإغريقي كونيا (أبو يعرب يرى ابن تيمية امتدادا لمشروع الغزالي)، وابن رشد آخا بين الفلسفة الإغريقي والنص الإسلامي، أما أبو العباس ابن تيمية فرفض كل هذه الصيغ وانجز فلسفة مستقلة في مجالها العربي؛ ومعنى كونها مستلقة ليس إنها لا تتعاطى السؤال الإغريقي، وإنما القصد أنها تصدر عن مورد ذاتي مستقل.

هذه هي الخريطة باختصار أرجو ألا يكون تطويلا مخلا بالهدف الأساسي وهو سؤال الاستقلال تراثيا. إذن كان هناك اختلاف في حجم الاستقلال: الاستقلال لايعني الرفض لكن يعني وجود معايير معرفية ذاتية تعالج آلية استقبال اي نمط ثقافي منقول.

هذا كله “محاولة في التراث”، ماذا عن سلوك المثقفين العرب اليوم؟

قديما كان المعضل هو ادعاء كونية النموذج اليوناني، أما اليوم فالمدعى هو عالمية النموذج الأوروبي. والفرق بين العالمية والكونية هو آن الكون عام يشمل الأفراد، بينما العالمي يشمل الدول والتجمعات البشرية (اقرب للنزوع السياسي). القول بكونية الفلسفة يتجاهل سياق نشأتها التاريخي والاجتماعي، التي لا وجود لفلسفة دونهما، ويتجاهل ارتباط الفلسفة والثقافة بالسياق الأدبي واللغوي.

السؤال: متى وكيف سيكون لنا نحن العرب استقلالنا الفلسفي والفكري؟ أعتقد ان الربيع العربي سينتج في مراجعاته موقفا ما من ركض المثقفين العرب خلف الموضات الغربية من موضة إلى موضة ومن زي فكري إلى زي فكري آخر (كان العقاد يسمي الموضات الفكرية أزياء على سبيل النقد الساخر).

ما هو المفهوم الذي أوجده العرب اليوم؟ ما هو النسق الفكري الذي ابتكروه؟ نعم ثمة نقد عربي للفكر الغربي، لكن النقد وحده ليس كافيا، ما لم يتحرر العرب من التقليد فلن ينتجوا. ومن باب التفاؤل أن نذكر هنا وجود مفهوم من انتاج تطور الحراك العربي، وهو مفهوم”القُطرية”، وأنه جاء معالجة وتجاوز لمفهوم “الدولة القومية الحديثة = الدولة/الامة” المنقول.

بغض النظر عن التفاصيل، فالاجتهاد الفسلفي المعاصر يحتاج إلى شروط لابد من توفرها، ويستحق هذا الموضوع ورقة مستقلة، ويمكن مراجعة محاولة أولية للدكتور طه عبد الرحمن في كتابه: “الحق العربي بالاختلاف الفلسفي”.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق