السبت، 26 مايو 2012

العدمية في الفلسفة الألمانية من شتيرنر إلى نيتشه Nihili
                                                                                                  

بقلم محمد النجار
 النيهلستية(* Nihilism، تعني في ترجمتها العربية “العدمية”)، وهي نزعة توّج بها ماكس شتيرنر وفريدريك نيتشه نهاية القرن التاسع عشر. هذه النزعة التي بشَّر بها هذين الألمانيين، واللذَين اتفقا في مقدماتها، ولكنهما سوف يختلفان ويفترقان في نتائجهما، فالعدمية كنزعة ورؤية في الوجود، تعني أن أعلى القيم ....

تفقد كل قيمة، و يُعتبر الأديب الروسي (إيفان تورغونييف) أول مَنْ ابتدع ونحت الدال اللغوي لهذه النزعة في روايته المعنونة بـ(الآباء و الأبناء)، ويُمثِّل بطلها (بازاروف) نموذج الإنسان العدمي، الذي يصف لنا هذه النزعة بكل وضوح، قائلاً: ما علينا أن نتباهى إلاِّ بشعورنا العقيم بفهمنا ـ إلى حدّ ما ـ عقم ما هو موجود.

إننا نصبح عدميين مع (تورغونييف)، حينما يتملكنا ذلك الشعور العقيم، بعقم الوجود المتعيّن، فهذه العدمية التي لا تكترث بالحياة، بما هو موجود، إنما هي عدمية سلبية لا تقيم وزناً لما هو موجود، وتصبح خطيرة عندما تعجز عن الإيمان بما هو موجود، يقول ألبير كامو في وصف هذه النزعة التهديمية المفرطة: (إذا كانت تعني العجز عن الإيمان، فإن أخطر ظاهرة لها لا توجد في الإلحاد، وإنما في العجز عن الإيمان بما هو موجود، وفي العجز عن رؤية ما يجري، وعن عيش ما يُسنح).
إن عدمية (شتيرنر) هي من هذا النوع، سلبية وهدّامة، فأسّس فلسفة في التمرد، أما (نيتشه)، فقد امتلك إرادة جديدة في الوجود، فأضفى قيمة إيجابية على الحياة، بعد أن تخلى عن كل ما أورثه ( شوبنهاور) من تشاؤم وسلبية، هذه الإرادة الجديدة هي شيء تفرّد به نيتشه من خلال نضاله ضد عصره، فجاءت عدميته إيجابية، بناّءة لتعلن في النهاية إيماناً جديداً مؤسِّساً فلسفته على التمرد.
إن العالم يحتاج أبداً إلى الحقيقة(1) بهذه اللغة التي تتخذ طابع المطلق صفة لها، بحث نيتشه عن الحقيقة، مهما كلّفه الأمر، هذه الحقيقة لم تعد توجد إلاّ بوجود الحامل الموضوعي لها، أي لم تعد هذه الحقيقة إلاّ حقيقة إنسانية، إذ ينتزعها نيتشه من سمائها الميتافيزيقية لتصبح حقيقة الإنسان في “حالة الصيرورة “(2).
هذه الرغبة في البحث عن الحقيقة أعلنها نيتشه في وقت مبكر من تفلسفه، حيث تحولت لديه النزعة الدينية، كما يقول، إلى رغبة في الحقيقة، كتب في مقالته المعنونة” بالقدر والتأريخ” قائلاً:
ستحدث اضطرابات واسعة في المستقبل، حالما يُدرك الناس أن المسيحية لا تستند إلاّ على الفرضيات، لقد حاولتُ أن أُنكر كل شيء(3).
اعتباراً من آنية تفجر الذات هذه عند نيتشه، سوف يُدرِك أنه ينبغي تعليم البشر الضحك بدل الألم، سوف يستبدل نيتشه نبّياً بآخر، سوف يسخر زرادشت من “إكليل يسوع، بأن يتوج نفسه بإكليل من الورود، هذا الإكليل هو إكليل محض حجاجي، في مواجهة إكليل يسوع المصلوب”(4).
إنَّ شتيرنر هو الآخر، مثَّل قبل نيتشه، مرحلة جديدة، حيث جعل كل فرد إنساني مالكاً لعالمه الخاص، حقيقته الوحيدة. يمكننا اعتبار ” شتيرنر و نيتشه” الممثلين البارزين للنزعة العدمية الأوربية ،الأول يُمثِّل وجه العدمية الهدّام العبثي ، أما الثاني فيُمثّل وجهها البنّاء،الإيجابي الواعي . و لكن ثمة وجوه أخرى مختلفة، تضاف، مثلت هذه النزعة، ولكن في ميدان السياسة، أبرز هذه الوجوه (بيلنسكي، هيرزن، باكونين، بيزاريف، نيتشايف) ولا بأس علينا إن عرضنا بعضاً من آراء هؤلاء فيما يخص موضوع البحث.
إن أمثال هؤلاء الروس العدميين كانوا انموذجيين، وإن لم يكونوا فعالين على نحو إيجابي في ساحة الفكر الفلسفي. فقد أشاروا إلى حقوق، إلى عظمة النفس الإنسانية.
في البدء استخلصوا من المذهب الهيغلي تبريراً لنظرة اجتماعية متصوفة “ولكن هذا الهوى الروسي تراجع فيما بعد أمام هذه المشاركة الفعلية في الإثم مع الحكم المستبد”(5) فانتقلوا إثر هذا الإدراك العميق للموقف إلى موقف مناقض ومنافٍ تماماً للذي تبنّوه سابقاً.
إن موقف “بيلنسكي” والذي هو أكثرهم تأثيراً، يُعتبر أكثر دلالة بهذا الخصوص. يقول متوجهاً بكلامه إلى هيغل بالذات: (مع كل الاحترام اللائق بفلسفتك البورجوازية، لي الشرف بأن أُحيطكَ علماً بأنني سأسألك الحساب عن كل ضحايا الحياة والتاريخ إذا أتيحت لي فرصة الارتقاء إلى أعلى درجات التطور. إنني لا أريد السعادة حتى لو كانت مجانية، إذا لم أكن مستريح البال بخصوص كل إخوتي في الدم) (6).
إن ما قرأناه ” لبيلنسكي” واضحٌ يريد أن يطرح جانباً كل الموروث الهيغلي، إذ يريد خلود الإنسان كله منتصباً في شخصه الحي، لا الخلود التجريدي للنوع و قد أصبح روحاً(7).
أما” هيرزن (1812ـ1870م) فقد كتب قائلاً: إن إزالة القديم تعني إحداث المستقبل” بهذا القول سوف يتابع و يستأنف هيرزن المنحى الذي بدأه بيلنسكي من قبل، هذه المطالبة بإزالة كل قديم، وبالتالي كل تاريخ وعقد العزم على بناء المستقبل، هذه المطالبة الشتيرنرية ـ فيما سنرى لاحقاً ـ تعود إلى الظهور مع هؤلاء الروس. إنّ هذه النزعة الهدّامة سوف تشتّد ـ فيما بعد ـ في شخص آخر، أخلص للذات الفردية كثيراً، هذا الشخص هو “بيزارييف ” (1840 ـ 1868م) طارحاً كل عملٍ ليس أنانياً صرفاً”(8).
إن بيزارييف إذ يُقدس الذات الفردية، يُنكر كل ما ليس إرضاءً لهذه الذات، يُنكر في الوقت ذاته: الفلسفة، الفن، الأخلاق، الدين، إجمالاً يُنكر كل نتاجات الوعي، لينحت لنا عبر صورة واضحة وصادقة نموذجاً مثل إيفان وراسكولينكوف أبطال دوستوفسكي. إنّ بيزارييف طرح على نفسه السؤال التالي: هل يستطيع المرء أن يقتل أمه؟ فأجاب قائلاً: لمَ لا، إذا كنتُ أريد ذلك وأجده مفيداً.
أما (باكونين)، فهو الأكثر شهرة بين هؤلاء الروس الفردانيين العدميين، جسدَّ هو الآخر منحى التمرد الفردي الذي نحاه ( بيلنسكي) مؤثراً على سلسلة الأحداث في روسيا، ولكنه أتى بشيءٍ آخر(بذرة تحلّل قيمي سياسي)(9)، متأثراً في هذا بالفوضوية الفرنسية.
يقول (كامو): كان باكونين الوحيد في زمانه الذي انتقد حكومة العلماء بعمقٍ استثنائي، وضد كلَّ تجريدٍ، دافع عن الإنسان كله المتوحد توحداً ذاتياً مع التمرد(10).
لَئن مجَّد باكونين الأشقياء، مجَّد أشخاصاً لم يأتوا عقيدة أو مبدأً، مجَّد أشخاصاً كان مثلهم الأعلى، الحرية الخالصة، إنّ ما يبحث عنه باكونين، هي (العاصفة و الحياة، هذا ما نحتاجُ إليه، عالمٌ جديد، بلا قوانين، وبالتالي عالمٌ حر) (11).
بالمقابل لن تكون صورة (نيتشايف) آخر أقرانه الروس، مختلفة، مقارنة مع سابقيه المتمردين، سوف يرث عن باكونين، المداهنة في السياسة الثورية، الأمر الذي يدعو إلى السخط كما يقول كامو.
إنّ نيتشايف، يُعتبر أقل شهرة من باكونين، ولكنه وجهٌ أكثر دلالة فيما يخص موضوع البحث، فقد سار بمنطق العدمية إلى أبعد ما يمكن، ويكاد يكون خالياً من التناقض.(12). إنّ العالم الوحيد لديه هو عالم الأشقياء المتوحش، السياسة هي الدين الوحيد، والثورة هي كل شيء.
إنَّ الثوري ـ والقول لنيتشايف ـ إنسانٌ محكوم عليه سلفاً. يجب أن لا يرتبط بأية علاقاتٍ عاطفية، وأن لا تكون له أشياء أو كائنات محبوبة، عليه أن يتجرد حتى من اسمه، كل شيء فيه يجب أن يتركز في هوى وحيد: الثورة.( 13).
إننا إذ نبحث في آراء هذه الفئة العدمية، والتي يجمع بينها شعار (الهدم، لا البناء)، لا نستطيع أن نضع فواصل دقيقة تُميّز بين متمرد وآخر، فهم يشكلون بقعة ظلالية واحدة ومتداخلة إلى حدّ ما.
أما (ماكس شتيرنر 1806ـ 1856م )، فسنبحث في نتاجه ليس كمتمرد عدمي فحسب، إنما كمفكر ترك لنا نتاجاً فلسفياً مارس بعض التأثير وإنْ وصفه (أنجلز)، بأنه (ظلّ حدثاً طريفاً بسيطاً)(14)، في ميدان الفلسفة الكلاسيكية الألمانية.
إنّ شتيرنر هو واحدٌ من الشبان الهيغليين اليساريين، الذي كثيراً ما كان يختلف إلى جمعية المتحررين، والذي (لم يكن لديه حسابٌ يصفيه مع الله فحسب، بل أيضاً مع إنسان فيورباخ، وفكر هيغل المطلق و تجسده التاريخي في الدولة) (15).إن الإنكار عند شتيرنر سوف يبلغ ذروته لتتآلف من ثمّّ مع مبدأ تبرير الجريمة، لصالح أنا فردانية متمردة على كل التجريدات، لتصبح هي بدورها ـ فيما بعد ـ مجردة غير قابلة للتسمية، وذلك من فرط ما عُزلتْ عن أصولها، وقُطعتْ عن جذورها(16).
شتيرنر لن يرهق نفسه كثيراً، كما سيفعل نيتشه لاحقاً، بل سيضحك وهو في ورطته، أما نيتشه فسوف يناطح الجدران، سوف يشرع شتيرنر بعملية التكنيس منذ عام 1845، عام صدور كتابه( الأوحد وملكيته)، والذي يصفه البعض من مؤرخي الفلسفة، بأنه نتاجٌ فوضوي لرجلٍ شاذ الطباع.
في كتابه الوحيد، سعى شتيرنر نحو تأكيد (الأنا الفردية) المشخصة وتمييزها عن (الأنا المطلقة) المفارقة، التي قال عنها (فيخته)، هذه الأنا التي يحرص عليها شتيرنر كثيراً، إذ يحوّلها إلى منتهى ما لها من صفة خصوصية، لن تجد في النهاية حتى أسماءً تسميها. يقول شتيرنر (لم أبنِ قضيتي على أي شيء، ليس من شكٍ في أن الخطيئة بليّة، ولكن الحق الذي نُكابد منه هو أيضاً بليّة، الله هو العدو، ولكن الله ليس سوى أحد انحرافات الأنا الذاتية الفردية) (17).
إنّ شتيرنر يجعل من كل الأنبياء والفلاسفة أُناساً ابتدعوا صوراً جديدة لانحرافات الأنا الذاتية، فهو (يعتقد أن التاريخ العام حتى مجيء يسوع لم يكن سوى جهد طويل للسير بالواقع نحو المثال).(18). واعتباراً من يسوع بُدِىء بتحقيق هذا المثال.
ربما لم يتملكه أحدٌ ذاته من قبل، مثلما حدث مع شتيرنر، إنه تمَلُك جنوني صارخ مسموم، فهو لا يؤمن بشيء سوى حرية واحدة، هي كما يقول (قوتي)، وحقيقة واحدة هي (الأنانية العظيمة، أنانية النجوم)(19).
أمام هذه الرؤية الواضحة التي خطّها شتيرنر لنفسه أو للآخرين، بماذا يمكن للمرء أن يتوقع حيالها، هل يستمر طالما أنه بدأها هكذا، ليصل إلى نهاياتها القصوى، ألا وهي الدمار، أم يتراجع فتخذله قواه الفكرية؟ إن كامو يصف أمثال شتيرنر ومَنْ معه من المتمردين العدميين، بأنهم سيجرون جميعاً نحو أقاصي العالم ثملين بالدمار. إنّ شتيرنر لن يتراجع أبداً، ولن يخون حقيقته، سوف ينتصر لذاته، للأنا مقابل العالم، فيجد أمرَّ مسراته في الخواء، كتبْ عن الأمة الألمانية، قائلاً: (ستُدفنين، وعما قريب ستلحقُ بكِ أخواتُكِ من الأمم الأخرى، وحينما تمضي جميعاً في إثركِ ستُوارى الإنسانية التراب وعلى قبرها، أنا سيدُ نفسي الوحيد أخيراً، أنا وريثها، سأنفجر ضاحكاً)(20).
إنّ شتيرنر الذي زعم بأنه صفّى كل حساباته مع المقدس والدنيوي، مع الدولة والله، الأخلاق، مع إنسان فيورباخ، مع فكر هيغل المطلق، إنه رغم ذلك كله لم يُبارح ميدان الهيغلية كثيراً، إذ يعترف هو نفسه بأبوة هيغل له، وسوف يفهمه ماركس بدوره كتركيب تاريخي من النموذج الهيغلي مُقدِماً إثباتات حول ذلك. لكن هيغلية شتيرنر حجبتها التسميات الشعبية ذات التأثير الملموس التي أحلّها محل مقولات هيغل، فبدا لنفسه، وكأنه يسمو على تاريخ الروح(21).
نقطة الانطلاق عند شتيرنر، كانت (الذات)، الأنا الفردية، حيث جعل كل فرد مالكاً لعالمه الخاص، تلك البداية الجديدة، القادر على استهلاك أناه، والذي لا يأبه لبقية العالم، ولكي يحقق شتيرنر ذلك يعود بها ـ الأنا ـ إلى العدم الخلاّق. يقول شتيرنر: (إذا ما أسندتُ ـ أنا الواحد ـ قضيتي إلى ذاتي، فإنني أُسندها إلى الخالق الزائل، الفاني، الذي يلتهم ذاته بذاته، ويحق لي عندئذ القول: إنني أسندتُ قضيتي إلى العدم)(22).
على هذا النحو يختتم شتيرنر التركيب الذي وضعه للتاريخ والذي كان الاكتمال الهيغلي شرطه.
إن عدمية شتيرنر تبقى إلى حدّ ما ضمن أفق تجربة شخصية، إذ لم يفحصها (كواقعة سريرية) كما سيفعل نيتشه، بقي شتيرنر أسير النزعة الشخصية، لمجتمع برجوازي ذارئعي منهار، هذه النزعة التي أضفت طابعاً إطلاقياً على (أناه الفردية) مهملاً وجود (الأنا / الآخر)، وهو (لا يعرف ما يفعله إلاّ العودة إلى العدم، كي يستهلك العالم كما هو بقدر ما يكون صالحاً للاستهلاك)(23).
إن العدمية النيتشوية هي الأخرى مصحوبة بالقبول الكلي والشامل للدمار، وفي هذا القبول فقط تشترك مع وجهها السلبي الأخر، ونعني بها عدمية ماكس شتيرنر التي وصفها كامو بأنها عدمية قنوعة.
ولكن مع (فريدريك نيتشه 1844ـ 1900م)، تصبح هذه العدمية ولأول مرة (نبؤية واعية)(24).
إن محاولة نيتشه للقيام ببداية جديدة عبر نقده الجذري لتاريخ الغرب وللثقافة الغربية على حدّ سواء، شاءت هذه المحاولة أن تلتقي مع سابقتها ـ الأخرى ـ التي كان قد بدأها شتيرنر، شاءت هاتان المحاولتان أن تلتقيا، كمصادفة تاريخية، ولكن ليمتاز موقع أحدهما ـ وهو نيتشه ـ عن الأخر، من حيث الرؤية والتنبؤ بالنتائج، بوعي حقبة تاريخية وعاها الاثنان معاً، ولكن كلٌ بذهنيته المختلفة.
على الرغم من أن اسم شتيرنر لا يرد ذكره في أيّ من كتابات نيتشه، إلاّ أن (أوفربك)، صديقه في تورنتو يؤكد (معرفة نيتشه المباشرة بكتاباته)(25). أضف إلى ذلك أن هناك مَنْ يصف شتيرنر بأنه (ترسانة الأفكار التي استعار منها نيتشه أسلحته)(26). إنّ الأهمية لا تكمن، في إنْ كان نيتشه قد قرأ شتيرنر أم لا، تكمن الأهمية في أنهما ينتميان إلى بعضهما من (خلال المنطق الداخلي لنقدهما الجذري للنزعة الإنسية المسيحية)(27). وفي الوقت ذاته يمكن تعيين فواصل تفرّق بينهما على الإطلاق، أي عدمية كل منهما مقابل الآخر، الأول ـ شتيرنر ـ لا ينقطع عن النظر إلى الماضي والتاريخ برمته واعتباره سلسلة طويلة من الانحرافات للذات الفردية، أما الثاني ـ نيتشه ـ فيتنبأ بما سيحدث في المستقبل.
إنّ نيتشه يمثّل هنا، تماماً، وجه (جانوس) في المثيولوجيا اليونانية، حيث يرى باتجاهين مختلفين، يُكاشف على جبهتين، الماضي والمستقبل، فيُبشّر بحلول العدمية في القرنين الآتيين، يقول في مقدمة كتابه الأخير (إرادة القوة): (إنّ ما أرويه هو تاريخ القرنين القادمين، فأنا أصف ما سيأتي، وما لم يعد يستطيع أن يأتي بطريقة مغايرة، إنني أصف صعود النزعة العدمية، هذا التاريخ يمكن أن يُحكى منذ الآن، لأن ما يتم فعله هنا هو الضرورة ذاتها)(28).
مجمل فلسفة نيتشه تتمحور حول أربعة أفكار وهي: الإعلان عن موت الله، الشخصية الرئيسية في قصة نيتشه الدرامية، ثم الإنسان الأعلى / المتفوق، وإرادة القوة، وأخيراً العودة الأزلية.
إن عدمية نيتشه تبدأ بالضبط حينما يعلن تمرده، والتمرد عنده يبدأ حينما يعلن موت الله على لسان زرادشت الذي ينزل من غاره بعد مفارقته للناس عشر سنوات، حاملاً معه ناره إلى الوادي بدلاً من الرماد، وبعد حديث مطول مع شيخٍ يلتقيه في الغابة، فينصرف عنه زرادشت قائلاً في نفسه: (إنه لأمرٌ مستغرب، ألا يسمع هذا الشيخ في غابة أن الله قد مات)(29).
إنّ نيتشه إذ يعلن هذا الموت، لم يؤسس(فلسفة في التمرد، ولكنه بنى فلسفة على التمرد)(30). وهو لا يعلن هذا الموت، إلاّ لأنه وجده مسبقاً في ضمير أهل زمانه، ولذلك تأتي أهمية نيتشه كفيلسوف عندما يكتشف قبل غيره جسامة هذا الحادث، إذ رأى أن هذا التمرد من جانب الإنسان لا يسعه أن يؤدي إلى نتيجة ترجى ما لم يكن هذا التمرد خاضعاً لتوجيه يذكر، لذلك نجد بعد أن ينتهي نيتشه من قتل الإله يسارع إلى إيجاد بديل عنه يفوق ما تم تقديسه إلى حينه، هذا البديل هو الإنسان المتفوق، يقول نيتشه: (إنني آتٍ إليكم بنبأ الإنسان المتفوق، فما الإنسان العادي إلاّ كائنٌ يجب أن نفوقه)(31). إنه ما هو إلاّ متنبىء بالصاعقة على حدّ تعبيره، وما الصاعقة التي يبشّر بها إلاّ الإنسان المتفوق. في هذا الإنكار الذي يمارسه نيتشه ـ وهو إنكار منهاجي ـ يفوق به كثيراً الإنكار الاعتباطي الرخيص الذي مارسه (ماكس شتيرنر)، فلدى نيتشه تصبح العدمية نزعة واعية ونبؤية لأول مرة، فهو لا يريد أن يفعل كما فعل شتيرنر عندما مجّد الأنانية، أنانية النجوم، ولن يخلق أوثاناً أخرى. إن ما يريده نيتشه هو تمجيد الحياة/الأرض والإله الذي يمكن أن يؤمن به ـ على حدّ تعبيره ـ إنما هو (الإله الذي يمكنه أن يرقص)(32).
إن نيتشه يحثُّ زرادشت على أن ينفخ في الأوراق ليتبدّد من حوله كل شيء عراه الذبول، لماذا؟
لأن الحال قد ساءت، (فقد استحالت روما إلى عاهرة)(33) إن (الله يموت)، عند نيتشه ليس بسبب نزعته الإلحادية المفرطة فحسب، بل بسبب المسيحية التاريخية ذاتها، هذه هي النتيجة الغريبة التي يخلص إليها نيتشه، والحق أن الأمر لا يصبح غريباً على هذا النحو حالما يتقدم نيتشه للإجابة عن ذلك، (إذ بمقدار ما جعلت المسيحية القُدسيات أشياء دنيوية)(34) سارعت بذلك في موت الإله، على أن نيتشه لم ينظر إلى المسيحية كعقيدة، أو وحي إلهي، وإنما بمثابتها منظومة قيم وأخلاقاً للعبيد، يقول في ذلك: (لم يُدحض في الحقيقة سوى الإله الأخلاقي)(35) لذلك لن يتأخر نيتشه عن استثمار كل القيم التي اعتُبرت تقليدياً مانعة للعدمية، ونخص بالذكر، الأخلاق، لصالح العدمية ذاتها.
مع هذه الحقيقة النيتشوية تصبح المسيحية، هي الأخرى، عدمية، لأنها لا تُدرِك ما تفعل، إذ تعتقد المسيحية أنها تناضل ضد العدمية عندما ترسم صورة جديدة للعالم وتُحدّد مسيرته الإلهية، إذ تفعل المسيحية هذا، تصبح هي الأخرى عدمية من حيث لا تُدرِك في اعتقاد نيتشه، لأنها إذ تفعل ذلك تحول دون اكتشاف المعنى الحقيقي للحياة، فتفرض عليها معنىً وهمياً، يقول نيتشه ـ العدمي العنيد ـ في هذا الشأن: (كل كنيسةٍ بلاطة موضوعة على ضريح إنسانٍ / إله، إنها تسعى بالقوة لأن تمنعه من الانبعاث)(36).
بعد أن ينتهي نيتشه من محاكمته للمسيحية، يبدأ بمحاكمة الاشتراكية بوصفها أيضاً أخلاقاً للضعفاء، وما الاشتراكية في اعتقاده سوى (مسيحية منحطة)، لأنها تضفي الغائية على التاريخ، و(تُحلُّ غاياتٍ مثالية محلّ الغايات الحقيقية)(37) فهي الأخرى تخون الحياة، وعلى هذا النحو تصبح كل مذاهب الخير الإنساني العام عدمية في نظر نيتشه، إذا لم تسعى دون اكتشاف المعنى الحقيقي للحياة.
هنا بإمكاننا أن نطرح السؤال التالي: إذا كانت كل فكرة عن الإله خاطئة، وإذا كانت المسيحية عدمية وكذلك الاشتراكية وصولاً إلى اعتبار كل المذاهب في الخير الإنساني العام، عدمية، ألا يمكن النظر إلى فكرة (الإنسان المتفوق) في فلسفة نيتشه على أنها هي الأخرى عدمية، وكأن الإنسان المتفوق هو إعادة تشكيل لمفهوم الآلهة في الأسطورة، ولكن ضمن سياقٍ تاريخي سيكولوجي جديد، أو القول مع الفيلسوف الوجودي الروسي (نيكولاس برديائيف)، بأن (السوبرمان / الإنسان المتفوق) عند نيتشه، هو شيء شخصي يتعلق بشخصية نيتشه ذاته، أو الوقوف مع (جوليفيه) الذي رأى في (الإنسان الأعلى تعبيراً عن مستقبلٍ لا يمكن اللحاق به)؟ (38).
إنَّ إنسان نيتشه في الحقيقة هو ذلك الموجود الذي يحيا في (الأطراف البعيدة)(39) الأمر الذي يجعل من استراتيجية تفكيره، غيرُ مختلفٍ كثيراً عن تفكير مواطنه (كارل ماركس)، إذ أن كلٌ منهما يرسم مستقبلاً محدداً للإنسانية، الأول ـ نيتشه ـ يرسم صورة إنسانية متفوقة، والثاني ـ ماركس ـ يرسم صورة مجتمعٍ بلا طبقات.
إن هاتين الصورتين المرسومتين للمستقبل الإنساني وفقاً لهما، لا تعتبران طوباوية على الإطلاق، لأن كليهما يستبدلان العالم الآخر الميتافيزيقي، بالمستقبل الآجل، لكنَّ عالم نيتشه وماركس، على الرغم من ذلك، يبقيان معلقين بمفهوم (أرسطو)عن الوجود بالقوة و الوجود بالفعل؟
إنّ العدمية التي سار بها نيتشه إلى نهايتها القصوى، تُمثِّل رؤية جديدة للعالم، ولكنها رؤية مأساوية، لأنها تجعل الإنسان في حيرة وضياع ما لم يُحقق هذا الإنسان، ما حققه زرادشت بانقلابٍ شامل لكل القيم القديمة البالية. إنه ـ زرادشت ـ يُلقي بخطابه على النحو التالي: (فمَنْ أراد أن يكون مبدعاً سواء أكان في الخير أم في الشر، فعليه أن يبدأ بهدم ما سبق تقديره وبتحطيمه تحطيماً)(40).
إن نبأ حلول العدمية يُعلنه (عرّاف الإعياء الشديد)، والأمر ليس أمر حادثة حلّت بالبشر على نحوٍ عنيف ومفاجىء لا يقبل التفسير، بل هو بالأحرى نتيجة السيطرة الطويلة التي مارستها الأخلاق المناهضة للطبيعة وميتافيزيقا العالم الآخر.
في (إرادة القوة) لا يؤتى بشيء جديد، وإنما تفكير نيتشه ينعطف ثانية نحو فكرته السابقة، (موت الإله) فتصبح هذه الفكرة محور الكتاب، وعلى نحوين اثنين، أولاً: موت الإله ـ حلول للعدمية ـ معناه (تناقص قيمة الدين و الأخلاق و الميتافيزيقا تناقصاً ذاتياً)(41)، وهو ما يدعوه نيتشه بحلول العدمية، ثانياً: موت الإله معناه (تحولاً في القيم فعالاً ومقصوداً، وبوصفه نقداً للقيم التي اعتُبرت بمثابة العليا حتى اليوم)(42).
على هذا النحو، يقيم نيتشه فارقاً بين صيغ سيكولوجية ثلاث هي: اليأس، الاضطراب، العدمية، والتي تُمثِّل حالة متوسطة ومرحلة انتقالية، ويتم التغلب عليها حينما لا نعتبر العالم ـ عقب موت الإله ـ عالماً ملعوناً هجره الله، بل أن هذا العالم الملحد (بدأ يشع في ضياء تجربة جديدة للوجود)(43).
إن الإنسان لا ينقطع عن التقييم بمقدار ما هو إنسان، لا ينقطع عن النظر إلى الأشياء والحياة بمعيار القيمة، ونيتشه ذاته أراد أن يُحيل كل مسائل الوجود إلى مسائل القيمة، فالإنسان إذ ينقطع عن ممارسة فعل التقييم يفقد صفته النوعية، وما أن يفقد هذه الصفة تصبح معه كل الأشياء غير ذي قيمة، ومع فقدان القيمة والنظر إلى الأشياء من زاوية العبث تصبح الحياة على إثرها غير طبيعية، بمعنى أنها (تُقيَّم بعد ذلك وفق معيارٍ يثير القلق، فالقيمة السائدة إنما هي العدم)(44).
غير أن الأمر لا يقف عند هذا الحدّ، بحيث أنه يمكن تحديد صور أخرى تسبق العدمية كمرحلة وسطى ضمن عملية التقييم والانتقال من رؤية قيمية إلى رؤية أخرى، فالتشاؤم مثلاً، صورة مسبقة عن العدمية، ونيتشه يُميِّز في التشاؤم بين اتجاهين: اتجاه أول؛ ناجم عن الضعف يضع الحياة في قفص الاتهام ويواجه الحياة بالرفض لأنها تتسم بالقوة، واتجاهٌ ثانٍ (ناجم عن القوة، لا يسمح أن تُزوَّر الحياة)(45).
إن الإعلان عن موت الإله، بهذه الطريقة العدمية في تفكير نيتشه والتأكيد على الاستمرار في دفع ما يسقط، هي نقيض (الذبول الذي يعتري الحياة والذي يدعوه نيتشه انحطاطاً)(46). فالعدمية هي المحمول المنطقي لقضية موضوعها (الإنسان) وعلامة على انحطاط الحياة وذبولها، هذه العدمية تتوكد حينما يُقر الإنسان ببطلان كل القيم /الأصنام، التي آمن بها حتى ذلك الحين، إذ ذاك تبدو العدمية و(كأنها عتمة مترامية الأطراف، على جميع المثل السابقة، حينما تطلع في الأفق البعيد شمس جديدة، وهي بذلك الزمن المتوسط الذي تتعانق فيه النهاية والبداية، والزمن المدقع الذي تشحب فيه الأنجم القديمة ولما تتم مشاهدة الجديدة بعدُ )(47). هذه العدمية ـ المرحلة الوسطى ـ تتضمن حسب اعتقاد نيتشه، أربع حقب كبيرة:
1ـ الحقبة الأولى: فيها يتراءى للعيان، انهيار قيمة القيم السابقة مع تناقص لسلطة الدين وكل نتاجات الوعي الأخرى، في هذه المرحلة تجهد جماعة للإمساك بما هو إلى زوال، فهناك محاولات لتوحيد أمور متعارضة، وفي أعقاب هذه المحاولات الفاشلة في إنقاذ الغرب، تبدأ الحقبة الثانية.
2ـ الحقبة الثانية: مرحلة الوضوح، فيها يُدرِك المرء أن القديم والجديد، متناقضات أساسية، لا يمكن الجمع بينهما، فالقيم القديمة وليدة الحياة في انحدارها، والجديدة وليدة الحياة في صعودها، ولكن لم يعثر الإنسان بعدُ على دربه الجديد.
3ـ الحقبة الثالثة: تقررها ـ وفقاً لتصور نيتشه ـ الأهواء الثلاثة الكبيرة المتمثلة في: الازدراء، الإشفاق، التهديم، فيعتدي فيها المرء على ذاته.
4ـ الحقبة الرابعة: حقبة الكارثة، حيث العدمية تقود إلى الكارثة، وإلى ارتداد البشرية حينما تسيطر على الناس عقيدة جديدة، ونفي عقيدة العودة الأزلية، ويرى نيتشه في سلطة هذه العقيدة منتصف التاريخ.
إن نيتشه حينما نظر إلى الوراء / الماضي، كما إلى الأمام / المستقبل، حيث رأى صعود النزعة العدمية في أوربة، لم يكن حينها عرّافاً، أو داعية للتبشير والمباركة لهذه النزعة، إنما العدمية عنده تعني ذلك الشعور الذي انتابه بأن (شيئاً لن يكون حقيقياً، بل سيصير كل شيءٍ مباحاً)(48) في هذا الشعور الذي انتابه، يتماثل نيتشه في حالته، مع ما قاله الأديب الروسي العظيم (دوستوفسكي) حيث عندما يُفقَد الإيمان بوجود إلهٍ، عندها يصبحُ كل شيءٍ مباحاً، ولكن لن يكون هذا الرجل ـ نيتشه ـ كما كان شتيرنر قبله عدمياً يدعو إليها فحسب، إنما كل محاولة نيتشه في فلسفته، تكمن للتغلب على هذه النزعة، عبر إنسانية متفوقة، ستدفن كل آلهتها أولاً، ثم تبدأ تاريخاً جديداً، وتبدع قيماً جديدة. كَتَبَ نيتشه (عام 1887) قائلاً: (على الرغم من أنني عدميٌّ متطرف، إلاِّ أنني لم أيأس من العثور على باب الخروج، وعلى المنفذ الذي يفضي إلى شيءٍ ما)(49) إن العدمية في هذا المنظور النيتشوي، تظهر وكأنها تجلٍّ للقوة، وامتلاك إرادة جديدة في الوجود، وهو ذاته يدرك على أنه (رجل انحطاط)، ولكنه يقاومه، بإرادة جديدة، في سبيل صورة جديدة للحياة.
إذا كانت كل محاولة نيتشه، تكمن للتغلب على ذلك الانحطاط الذي وصلت إليه أوربة، فأيُّ طريقٍ اختاره للتغلب على هذه النزعة؟
إنَّ قراءة لمجمل فلسفة نيتشه، تساعدنا في القبض على فكرته الرئيسية، وهي (موت الله) التي تُمثِّل البداية، ثم ينتج عن هذا الموت (النزعة العدمية)، وفي النهاية التجاوز الذاتي لهذه النزعة للوصول إلى (العودة الأزلية). إن هذا التصور نجده في الخطاب الأول لزرادشت، حيث للروح تحولات ثلاث: الجَمَل، الأسد، الطفل. أما (التنين)، فيُمثِّل (الإيمان المسيحي) الذي يقول (يجب عليك) فتتحول هذه الروح إلى(أنا أريد) و في صحراء الحرية يتم التحول الأخير، وبموجب هذا التحول تصبح الروح عدماً.
هذه (الأنا) تسعى للتحرر من الأخلاق المثالية المتعالية، والتحول الأكثر صعوبة يتم من الـ (أنا أريد) إلى الوجود المتعين المتكرر تكراراً أبدياً للعبة الإبادة والخلق الطفولية، من الـ (أنا أريد) إلى الـ (أنا أكون) في كلية الوجود. فالعدمية إذاً عند نيتشه هي حالة متوسطة ومُرضية ونقطة وسطى في الزمان، تنتهي فيها حقبة، حتى تبدأ حقبة أخرى جديدة، وهي مرضية لأنها تستتبع تحولاً في الوجود الإنساني يبدو و كأنه مرضٌ جسيم.
إن كل فلسفة نيتشه تُمثِّل تصالحاً ذاتياً، فالفلسفة هي أولاً تجربة، تجربة و جود فردي تتشكل باستمرار في الهم و القلق، و ما فلسفته سوى (تعبيرٌ عن حياته، وترجمة لمأساته الشخصية في صميمها)(50).
ولكن ما يُعيبُهُ (جوليفيه) على فلسفة نيتشه هو أنه (لم يقدم في الواقع أية أخلاق إيجابية)(51)، وفي هذه المحاكمة ـ أقصد تصور جوليفيه عن الأخلاق ـ لا يخرج مؤرخ الفلسفة هذا، عن تصوراته المسبقة عن مفهوم القيمة في محاكمته لفلسفة نيتشه الأخلاقية، حيث ينطلق من نزعة كانطية ليحاكم أخلاق نيتشه على أساسها، وفي رأي آخر يمكننا القول مع (كارل لوفيت) ـ ومن خلال نضال نيتشه ضد عصره ـ بأنه يُمثِّل (اختياراً غير محدد لجمل تخاطب العصر، وبما أن نيتشه يطور أفكاره في ألفِ حكمةٍ ولا يطورها كمنظومة واحدة، فإن المرء يستطيع أن يجد لديه ما يحلو له أن يجده، أشياء عصرية إلى درجة مفاجئة، وأشياء غير عصرية على الإطلاق)(52).
في هذه الحالة، ينبغي أن نتذكر بأن نيتشه في كثير من جوانب فلسفته، يُمثِّل اتجاهاً وجودياً، ومع الوجودية عموماً ـ كما مع نيتشه خصوصاً ـ ينتهي الاتساق المنطقي للمذاهب الفلسفية في أوربة في نهاية القرن التاسع عشر، ومن أبرز خصائص هذه الوجودية أنها قدّمت أخلاقاً نسبية صرفة، بموجبها أعطت معنى جديداً لمفهوم القيمة الإنساني.
إنّ (جورج لوكاتش) هو الآخر ينتقد بشدة فلسفة نيتشه، ولكن من موقعه الإيديولوجي المناهض لكل نزعة فردية، حيث يقول: (نحن نعتقد أن المركز الذي حوله تنتظم أفكار نيتشه، هو الهجوم ضد الاشتراكية، النضال من أجل دفع ألمانيا إمبريالية، علماً بأن هذه الفكرة المركزية لم تتبلور بطبيعة الحال إلاّ تدريجياً)(53). انتهى كلام لوكاتش؟
إن نيتشه لا يختار المسيحية، ومن ثمَّ الاشتراكية، ليناصبها العداء من موقع إيديولوجي خالص، لا ينطلق من منظومة إيديولوجية، ليُدافع عن قيم طبقة اجتماعية، ضد قيم طبقة اجتماعية أخرى، كما يفعل لوكاتش أو آخرون، إنما هجوم نيتشه على المسيحية و الاشتراكية، يتأتى من طابعهما الرعاعي وما تحملانه من قيم شعبية تنتقصان من شأن الحياة.
لا شكَّ أن مَنْ ينظر إلى الفلسفة، نظرة كلاسيكية، كما يفعل لوكاتش من موقعه مع نيتشه، بوصفها مذهباً أو نسقاً أو إيديولوجية، لن يرى فلسفة فيما أنجزه نيتشه أو آخرون أمثاله، بل سيرى في نتاج هؤلاء عبثاً أو نزعة عدمية مناهضة للعقلانية بالذات.
أما (فنك) فيعتقد أن الكفاح الذي قاده نيتشه، ضد المسيحية، ضد الأخلاق، ضد الميتافيزيقا، ضد التراث الغربي بأكمله، لم يحقق من جرّائه أيُّ نصرٍ يذكر، ذلك لأن كفاحه اتخذ صورة كفاحٍ سيكولوجي وسفسطائي في الأساس، و(لكن السفسطة لديه واقعة في مستوى رفيع، الأمر الذي يوليها خطورة أشد، والسفسطة لديه ـ ونعني فنه السيكولوجي في إزاحة الأقنعة ـ متكاملة مع تحويله الفلسفي لجميع مسائل الوجود إلى مسائل القيمة)(54). فبهذه الطريقة السيكولوجية الخاصة التي مارسها نيتشه في فعله الانتقادي، لا يحرز نصراً حقيقياً على خصومه، لا يحرز نصراً على الميتافيزيقا، لأنه لم يتحرى حقيقة أفكار الميتافيزيقا بطريقة فلسفية، بل وضعها موضع الشبهة وفق رؤية (فنك) لمشروع نيتشه الفلسفي.
إن ما يراه ويُعيبه (لوكاتش وفنك) وآخرون من فلسفة نيتشه، نابعٌ من مواقعهم الفكرية الإيديولوجية، كما أن صورة نيتشه تُحدَّد في أكثر الأحيان وفق المظاهر الخارجية لآثاره، أكثر مما لنواة فلسفته، يُضاف إلى ذلك، تفكير نيتشه بالذات، فهو ذو تفكير سفسطائي، ولكن على مستوى رفيع من ذلك، إنه يُفكر بومضات فكرية، أكثر مما يفعل بطريقة العروض المجردة الشاملة، إن تفكيره، تفكيرٌ حدسي يعتمد على الصور، ولا يتوانى عن ابتداع رموز لا تصدق. يقول نيتشه عن نفسه: (إني أكثر الذين يتخفوّن خفاءً)(55).
في الحقيقة إن ما فعله هذا الفيلسوف، ربما لم يفعله أيُّ فيلسوفٍ آخر، فكان أكثرهم عرضة لسوء الفهم نظراً لتفكيره الحدسي واختلافاته بين مرحلة وأخرى، فهنالك دائماً أقنعة تحجب الجوهري من فلسفته، لذا فهو دون شك لم يُدرَك حق الإدراك، لذلك ينبغي رفض إقحام نيتشه، وتصويره على هيئة المشيّد الكلاسيكي بالعنف والإمبريالية الألمانية كما فعل لوكاتش بحقه.
كلمة أخيرة: إن نيتشه بطريقته في التفكير قد افتتح حقلاً جديداً في ميدان الفلسفة، فعل ما فعله كلٌ من (ماركس، وفرويد)، حيث عمّق الدلالات في العالم الغربي، كما أنه غيّر من طبيعة الدلالة ذاتها، هؤلاء الثلاثة قد فتحوا أمامنا مجدداً امكانية جديدة للتفسير، فقد أعادوا تأسيس إمكانية تأويل نصوص قديمة مقدسة.
في علاقة نيتشه مع عدمية شتيرنر، لم يُصادق عليها تماماً، لكنها مع نيتشه، انتقلت من حقل دلالي إلى حقل دلالي آخر، مختلف ومغاير تمام عن مدلولها الشتيرنري الهدّام المحض.
إن زرادشت، نيتشه ـ مُحطم الألواح القديمة ـ مسيحٌ منتظر لم يجد أمامه مفرّاً من هذه النزعة، ولكنه لم يستقر فيها، بل واصل كفاحه ضد هذه النزعة للتغلب عليها، لقد تغنى بقيم الحياة على حساب المعرفة، كما أنه فهم التاريخ الإنساني ضمن معادلة ( الوجود / القيمة).

محمد نجار
s-najjar@hotmail.com

هوامش البحث:
1ـ نيتشه، الفلسفة في العصر المأساوي الإغريقي، ص(66)
2ـ جوليفيه، المذاهب الوجودية، ص(51)
3ـ ولسون، اللامنتمي، ص(142)
4ـ لوفيت، من هيغل إلى نيتشه، ص(220)
5ـ كامو، الإنسان المتمرد، ص(191)
6ـ المرجع السابق، ص(192)
7ـ المرجع السابق، ص(192)
8 ـ المرجع السابق، ص(194)
9ـ المرجع السابق، ص(197)
10ـ كامو، الإنسان المتمرد، ص(200)
11ـ المرجع السابق، ص(200)
12ـ المرجع السابق، ص(202)
13ـ المرجع السابق، ص(202ـ 203)
14ـ أنجلز، لودفيغ فورباخ و نهاية الفلسفة الكلاسيكية الألمانية، ص(43)
15ـ كامو، الإنسان المتمرد، ص(82)
16ـ المرجع السابق، ص(84)
17ـ المرجع السابق، ص(82)
18ـ المرجع السابق، ص(82)
19ـ المرجع السابق، ص(83)
20ـ المرجع السابق، ص(85)
21ـ لوفيت، من هيغل إلى نيتشه، ص(128)
22ـ لوفيت، من هيغل إلى نيتشه، ص(130)
23ـ المرجع السابق، ص(131)
24ـ كامو، الإنسان المتمرد، ص(85)
25ـ لوفيت، من هيغل إلى نيتشه، ص(229)
26ـ المرجع السابق، ص(229)
27ـ المرجع السابق، ص(230)
28ـ المرجع السابق، ص(232ـ 233)
29ـ نيتشه، هكذا تكلم زرادشت، ص(32)
30ـ كامو، الإنسان المتمرد، ص(89)
31ـ نيتشه، هكذا تكلم زرادشت، ص(33)
32ـ المصدر السابق، ص(65)
33ـ المصدر السابق، ص(275)
34ـ كامو، الإنسان المتمرد، ص(90)
35ـ المرجع السابق، ص(89)
36ـ المرجع السابق، ص(90)
37ـ المرجع السابق، ص(91)
38ـ جوليفيه، المذاهب الوجودية، ص(51 ـ 52)
39ـ المرجع السابق، ص(51)
40ـ نيتشه، هكذا تكلم زرادشت، ص(144)
41ـ فنك، فلسفة نيتشه، ص(181)
42ـ المرجع السابق، ص(181)
43ـ المرجع السابق، ص(183)
44ـ المرجع السابق، ص(184)
45ـ المرجع السابق، ص(184)
46ـ المرجع السابق، ص(184)
47ـ المرجع السابق، ص(185)
48ـ لوفيت، من هيغل إلى نيتشه، ص(232)
49ـ جوليفيه، المذاهب الفلسفية، ص(57)
50ـ المرجع السابق، ص(50)
51ـ المرجع السابق، ص(52)
52ـ لوفيت، من هيغل إلى نيتشه، ص(236)
53ـ لوكاتش، تحطيم العقل، ص(105)
54ـ فنك، فلسفة نيتشه، ص(143)
55ـ المرجع السابق، ص(7)

المصادر و المراجع المعتمدة في البحث:

1ـ نيتشه، فريدريك، هكذا تكلم زرادشت، ترجمة: فليكس فارس، دمشق، دار أسامة.
2ـ نيتشه، فريدريك، الفلسفة في العصر المأساوي الإغريقي، ترجمة: سهيل القش، بيروت، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، طبعة أولى، عام 1981. المقدمة بقلم: ميشيل فوكو.
3ـ أنجلز، فريدريك، لودفيغ فورباخ ونهاية الفلسفة الكلاسيكية الألمانية، موسكو، دار التقدم، عام 1971.
4ـ لوكاتش، جورج، تحطيم العقل، الجزء الثاني، ترجمة: الياس مرقص، بيروت، دار الحقيقة، طبعة أولى، عام 1981.
5ـ كامو، ألبير، الإنسان المتمرد، ترجمة: نهاد رضا، بيروت، منشورات عويدات، الطبعة الثالثة، عام 1983.
6ـ فنك، أويغن، فلسفة نيتشه، ترجمة: الياس بديوي، دمشق، منشورات وزارة الثقافة، عام 1974.
7ـ جوليفيه، ريجيس، المذاهب الوجودية (من كيركيغارد إلى سارتر)، ترجمة: فؤاد كامل، مراجعة؛ محمد عبد الهادي أبو ريدة، بيروت، دار الآداب، طبعة أولى، عام 1988.
8 ـ ولسون، كولن، اللامنتمي، ترجمة: أنيس زكي حسن، بيروت، دار العلم للملايين، طبعة ثانية، عام 1960.
9ـ لوفيت، كارل، من هيغل إلى نيتشه، ترجمة: ميشيل كيلو، دمشق، وزارة الثقافة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق