السبت، 26 مايو 2012

مفهوم “الاختلاف” عند جاك دريدا

مفهوم “الاختلاف” عند جاك دريدا
                                                                                        
محمد كحل

تأتي هذه القراءة النقدية كمساهمة متواضعة منا بمناسبة ذكرى رحيل احد أعمدة الفلسفة المعاصرة انه الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا وهي كذلك مناسبة نستحضر فيها أهم مزايا فكر الاختلاف لدى هذاالفيلسوف، الذي ولد في الجزائر – بداية ثلاثينيات القرن الماضي ﴿1930-2004م﴾. هو واحد من الفلاسفة، الذين انكبوا .....

بشكل دقيق على إعادة طرح مجموعة من التساؤلات المنصبة حول الفكر الميتافيزيقي.

فكتاباته، هي، قراءة شاملة لمميزات الفكر الغربي في كل مكوناته وخصائصه التي يقيم عليها مشروعه الفلسفي، ليبدأ في التوسع في مساحة التفكيك إنطلاقا من قضية الكتابة التي محور حولها كل اهتماماته، إذ يرى بأنها لم تُولَى لها تلك العناية التي تستحقها منذ أفلاطون حيث ظلت ″مكبوتة″، لذلك كانت هي المنطلق الذي دفعه الى محاولة تأسيس النقد التفكيكي للميتافيزيقا مركزا تساؤلاته على الهامش، الذي يريد أن يجعل منه موقعا ممكنا للكتابة وفضاءً فعليا للنص والتفكيك. هذه إستراتيجية فعالة، لتمكين الهامش من أن يكون المركز الذي يجب أن يخوض في موضوعاته الفكرالغربي، من حيث إن هذه النصوص التي كتبت على الهامش، تتداخل أشكال وأنماط كتاباتها المختلفة: أدب، فلسفة، مسرح، بلاغة… وإذن، وجب الإنفتاح على مجال الأدب، والنقد الأدبي، والتحليل النفسي… الخ.

كل ذلك لفتح مسار جديد مخالف لذلك الذي ساد في الإتجاهات النقدية السالفة على اعتبار أن تلك المناهج مرتبطة بتقابلات ومفاهيم وخلفيات فكرية، فهي إذن ميتافيزيقية. لذلك فهو يرسم للميتافيزيقا استراتيجيه خاصة في التفكيك تستند بالأساس على إستنطاقها لإبراز الثغرات والفجوات عن طريق إختراقها من الداخل، من طبقة لطبقة لتفكيك معمارها ولفك خيوطها من جهة وإعادة نسج خيوط لها من جهة أخرى، وهذا مايجعله يقر بأهمية الهوامش عنده كيفما كانت: مفاهيم، خطابات، نصوص… فالهامش قد يحضى بأهمية أكثر ويأخذ مكانة مركزية لذلك يولي اهتمامات كبيرة للكتابات الهامشية لأولئك المفكرين الذين أبدعوا لكنهم بقوا على الهامش: ﴿أرتو – باتاي – جابيس – لفيناس – مالارمي…﴾.

ففي ظل هذه النصوص يبرز الإختلاف، وفكر الإختلاف ليس له بداية مطلقة ولا أصل خالص يمكن للأشياء أن تتحدد من خلاله، نلمس فيه لعبة الإحالات، كل شيء يحيل الى شيء آخر قبله. لا نستطيع إذن إثبات شيء أصلي. الأصل لايكتسب قوته ومقامه إلا بالنسخة: “السوماكر”. فما هو المعنى الحقيقي الذي يتخذه مفهوم الإختلاف عند دريدا؟ ما هي قيمة هذا الفكر الإختلافي؟ وإلى أي حد يبرز بقوة فكر الإختلاف في النصوص المهمشة؟

إن الاختلاف هو البحث عن طريق التفكيك عن حضور الشيء، عن ازدواجية الخصائص داخل الشيىء نفسه. ففي الإختلاف différance فإن حرف a يكتب ويقرأ بينما لا يمكن سماعه لأنه صامت فالصفة المشتقة من فعل خالف/اختلف différer تجمع مجموعة من المفاهيم يعتبرها دريدا نسقية وغير ممكن اختزالها.

لنذكر أن différent يؤدي معنى مغاير، والمغايرة هنا تحيل للحركة النشيطة والساكنة الني تقوم بفعل الإختلاف. كما أن إحالتها هذه تتم عبر المهلة والتفويض والإرجاء والإحالة والدوران والتأخر وعملية الاختزان، وبهذا المعنى يكون الإختلاف غير مسبوق بالوحدة الأصلية وبما أن المغايرة هي المنتجة للمختلف لذلك نميز بين المتعارضات المفاهيمية في الأزواج الميتافيزيقية: طبيعة/ثقافة، محسوس/معقول، حدس/دلالة…

الإشكالية المركزية إذن عند دريدا، هي إشكالية الكتابة بمعناها الشامل: الكتابة ليست فقط بمفهوم الكتابة بل كمصدر لكل ما يمكن أن ينتجه الفكر الميتافيزيقي، حيث إن التراث الفلسفي سار على كبتها منذ أفلاطون، لذلك فقضية التفكيك مرتبطة بالنص المكتوب يهدف الى تفكيك مركزية الخطاب الذي يعلي من ظاهرة الصوت وهذا العمل التفكيكي ينكب على نصوص كتبت على الهامش مثل نصوص: أرتو، باتاي، لفيناس، مالارميه… بذلك ينادي دريدا الى التخلي عن القراءة الكلاسيكية ويدعوا لقراءة أخرى للنصوص تعتمد على مقولات جديدة تمكن من رصد فعل الإختلاف، أي تتبع البؤر التي يفيض فيها المضمون عن مركزية الخطاب، هذا معناه أن دريدا يعمد الى تفكيك المضمون الظاهر بالإعتماد على الملفوظ المتستر الذي يبطنه النص.

والواقع أن النص يعني، بنية إختلافية، حيث يظل المعنى يتمظهر ويتوارى من خلال تجزئه وانشطاره وتقطعه وتشظيه. لذلك فالفعل الإختلافي هو فعل الإحالات المشتبكة المتعددة، بحيث ينتفي كل تثبيت قار لموقع أو مركز. هناك دائما، امكانية لأن نجد في النص المدروس نفسه ما يساعد على استنطاقه، وجعله يتفكك بنفسه، لذا، فالأهم في قراءات النصوص ليس النقد من الخارج، وإنما الاستقرار أو التموضع في البنية غير المتجانسة للنص والعثور على توترات أو تناقضات داخلية، يقرأ النص من خلاله نفسه ويفكك نفسه بنفسه.

ومعلوم أن في النص قوى متنافرة تقوضه وتجزئه، لذلك فمعالجة دريدا للنصوص، التي كتبت على الهامش تستند أساسا على هذا النقد الداخلي بغية الخلخلة والهدم وإعادة البناء أو التأسيس، الأمر الذي يفتح الباب على مصراعيه لدى دريدا لأن الهدم و التفكيك لا تتمتع به النصوص الفلسفية فقط، إنما حتى الأدب والنقد الأدبي، من حيث كونهما يخضعان في الغالب الى هيمنة نظم فلسفية كلاسيكية.

فقراءة لمالارميه مثلا تنم عن قوة للكتابة وأسلوب هائل في استخدام اللغة يفيضان عن ما سماه دريدا نفسه بفلسفة المحاكاة. وواضح أن الثقافة الغربية التي أصبحت عالمية، تعطي قيمة للصوت الذي سيكون حاضرا فورا في الوقت الذي تصبح فيه الكتابة بديلا لمعالجة نتائج تقهقر الكتابة ومحاولة تأسيس في سياق معقد تاريخ للإشارات، والعلامات المكتوبة. ودريدا يوسع هذا المفهوم متكلما عن الأثر، كما يتحدث في كتابه: ”الدراماتولوجيا”، عن تحرر الذاكرة من التعبيرات المختلفة عن الآثار. وإذن، هاهنا اختلاف يقبل الدقة الموضوعية، وهوي ترجم معرفة مكتوبة بخطوط عامة في المجالات السهلة. إنه مشكل الفكر عندما يكون الكائن فيه محتجزا. إنه يعلن عن الذي يستحق التهميش، أو التوقف. هنا الصوت أوالإستماع تكون له قوة دائمة في حالة الغياب وكممر لمجموعة من التساؤلات التي تبحث في المجهول. وهذا دليل على أن مفهوم الإختلاف، يؤكد في كل لحظة على أهميته النظرية والعملية، إنه يعلن عن استعمالات متعددة سياسية، فلسفية، اقتصادية، أنتروبولوجية، اتنولوجية، فنية وأدبية، وأيضا نقد السياسة ونقد الفلسفة، الإقتصاد، الأنتروبولوجيا، الإتنولوجيا، الفن ،والأدب… التي هي بالفعل استعمالات لمفهوم الإختلاف الذي يظهر بأنه من المجالات التي يتموقع، داخلها والتي يخلخلها.

إن الاختلاف يرجع في واقعيته الى إعادة الإعتبار للآخر في هويته الواقعية المؤقتة وعليه فإن التفكيك يصبح هو مجموع التقنيات التي نستعملها من أجل قراءة الهوامش وإعادة الكتابة بل أكثر من هذا هي شكل من أشكالها أو مظهر من مظاهرها وهذا الشكل يبقى محدودا بالضرورة تحده مجموعة من السمات السياقية المفتوحة: اللغة، التاريخ، المكان… هناك تفكيك وتفكيك في كل مكان …

“ليس التفكيك، إذن، مجرد نشاط نقدي لأستاذ الأدب أو الفلسفة؛ إنه حركة تاريخية” كما يقول هو بنفسه (دريدا) في احدى حواراته. لذلك يمكن القول بأن، بحث جاك دريدا يظل سجين الميتافيزيقا في نهاية المطاف. ولكن مع ذلك فإن عمل دريدا يجعلنا أمام أسئلة وأجوبة جد متعددة بالتالي استحضار أسئلة وأجوبة لها أو إستبعاد أسئلة أخرى بأجوبة لها، يجعلنا أمام نهاية مفترضة وغير مقنعة مادمنا في مجال الفلسفة؟

فنهاية عمله يعني بداية عمل آخر انطلاقا مما انتهى وتوقف عنده. وبعد هذا كله ما هي الخلاصات التي نخرج بها مع الفيلسوف دريدا؟

معلوم أن الميتافيزيقا، حسبه، تأسست كمعمار مثل عمارة كبيرة ذات طبقات متعددة والمطلوب، إذن، في نقد هذه الميتافيزيقا، هو اختراقها عبر الطبقات المعمارية: طبقة بطبقة، لتفكيك معمارها أي خرق الشقوقات والتصدعات. فالتفكيك، هو النقد الداخلي: نقد الميتافيزيقا من داخل تاريخ الميتافيزيقا، فالتفكيك لايتم إلا من الداخل.

وواضح أن إستراتيجية التفكيك، تركز على استنطاق الميتافيزيقا وإبراز ما يمكن تسميته بخطابها المليء بالثغرات منذ أفلاطون، هذه الإستراتيجية تتحدد في عنصرين أساسيان هما: نقد ميتافزيقا الحضور ونقد الأزواج المفهومية وبإيجاز، إن الإختلاف هو لعبة الإحالات: حالة تحيل الى حالة… لايمكن أن تثبت شيء أصلي، لأن الأصل لايكسب مقامه إلا بالنسخة: أصل الأصل أو “السوماكر”.

هذه هي العمليات التي يمكن أن تتم في شكلها الإختلافي. الجديد عنده، هو، إنه فتح الآفاق لمناقشة قضايا متعددة بطريقة متميزة لا تخضع لقواعد منهجية. وبما أن التفكيك هو مغامرة فقد اعتبر جاك دريدا مفكرا مشاغبا، دائما يضع نفسه في الإثارة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق