الجمعة، 18 مايو 2012

 فيتجنشتين ومسألة اللغة في أصول الفلسفة التحليلية:

                                                                     

 "إن اللغة هي متاهة من الطرق. فأنت تأتي من جهة ما فتتعرف بنفسك على طريقك، وقد تأتي إلى نفس المكان من جهة أخرى فلا تتعرف على طريقك" (لودفيج فيتجنشتين)(1).



       لا يخلو الحديث عن الفلسفة التحليلية من أحكام مسبقة علقت بذهن كثير من القراء، فترسخت بقوة، رغم خطئها، لتصبح بمثابة قناعات أولية يصعب اقتلاعها. ولعل أشهر هذه الأحكام وأكثرها ذيوعا هو هذا الرأي الذي ينزل الفلسفة التحليلية في نفس مرتبة الفلسفة الوضعية، فيجعل من الأولى مرادفة للثانية.
        ورغم أننا لا نستطيع إنكار وجود قضايا مشتركة بين الفلسفتين، فإننا نرى من التبسيط رد كل المسائل التي تناولتها الفلسفة التحليلية إلى النزعة الوضعية لأن دعوى كهاته تظل، كيفما كان الحال، ضعيفة ومهزوزة؛ فضلا عن كونها لا تستطيع تقديم تفسيرات شافية لإقبال بعض الفلاسفة التحليلين �سيما الأمريكيين منهم- على أسماء فرنسية من أمثال فوكو ودريدا، ومساهمتهم الكبيرة في ربط قضايا الفلسفة التحليلية بالإشكاليات الرئيسية التي بلورتها الفلسفة الألمانية.
        ولعلنا لن نجانب الصواب إن نحن قلنا إن الانغلاق على الفكر الفلسفي الفرنسي قد ساهم كثيرا في تكوين صور خاطئة لا عن الفلسفة التحليلية فقط بل أيضا عن الفلسفات الأنجلوساكسونية، ونعتها بالنزعة الاختبارية الفجة. أما الأمر الآخر الذي يتم غالبا إغفاله، فهو أن المحاور الكبرى التي دارت حولها نقاشات الفلاسفة التحليليين تعود في أصولها إلى الفكر الجرماني: أعني إلى الفلسفة الألمانية-النمساوية. فقد لا الفاحص عناءا كبيرا في التدليل على أن معظم القضايا الرئيسية التي ما تزال تطرحها فلسفة اللغة التحليلية، ترتد في الغالب إلى فريجه وإلى فيتجنشتين وبالتحديد إلى "فيتجنشتين الثاني" كما سنرى.
        على أن "النفور" الذي قد يستشعره المتعود على "الفكر الفرنسي"، إزاء نصوص الفلاسفة التحليليين، يعود في مجمله إلى إحساسه "ببساطتها" وعدم ملامستها "لعمق" القضايا والأسس؛ فهو يؤاخذ عليها طابعها "السطحي" وانصرافها عن إثارة "القضايا الفلسفية الكبرى" وجريها في المقابل وراء مسائل "جزئية". لكن الواقع أن الأمر ليس كذلك لأننا في الحقيقة أمام "أسلوبين فلسفيين" مختلفين عن بعضهما البعض: إذا كانت الفلسفة الفرنسية تجنح نحو معالجة قضايا فلسفية تركيبية، فإن الفلسفة التحليلية تميل أكثر إلى تجزيء موضوعاتها؛ فهي تتولى تحليل المشاكل اللغوية مدفوعة بهاجس التوضيح ورفع مظاهر الغموض التي تكتنف معظم القضايا الفلسفية.
        غير أن هذا الأسلوب الذي تختص به الفلسفة التحليلية، لا يلغي إطلاقا مشاركة هذه الأخيرة في بلورة إشكاليات فلسفية لا تقل "عمقا" عن مثيلاتها في الفلسفة الفرنسية. ويكفي ذكر أسماء نيلسون غودمان وهيلاري بوتنام وريتشارد رورتي لكي نتبين بوضوح مساهمة الفلسفة التحليلية في صنع بعض المحاور الرئيسية التي يدور حولها الفكر الفلسفي المعاصر.
        أما غرضنا في هذا المقال فلا يخص مباشرة الفلسفة التحليلية بقدر ما يخص إسما فلسفيا بارزا كان له وقع كبير على مسارها، إذ من الممكن اعتباره واحدا من "الأصول" الهامة التي ساهمت في تحديد عناوين وأبواب التيار التحليلي. أجل، إن حديثنا عن فيتجنشتين سيتمحور عموما حول مسألة اللغة؛ لكن الناظر الجيد في النتائج التي سيتأدى إليها فيتجنشتين في هذه المسألة، لن تخفى عليه انعكاساتها على كثير من النقاشات التي ما تزال تثار حاليا في أوساط فلاسفة التحليل، الإنجليز والأمريكيين على حد سواء. ولا نزعم أن حديثنا، من حين لآخر، عن بعض هؤلاء الفلاسفة، كاف للإحاطة التامة بجوانب التأثير التي مارسها فيتجنشتين على هؤلاء الأسماء، ناهيك عن الإحاطة بأسس وخلفيات الفلسفة التحليلية.
        سنكتفي إذن في المقام الأول بعرض بعض المحطات التي كانت حاسمة في تصور فيتجنشتين للغة علها تسعفنا من جهة أولى في فهم بعض ما يروج في مجال الفلسفة التحليلية، ومن جهة ثانية في دحض اعتقاد خاطئ يذهب إلى ربط إسم فيتجنشتين بالوضعية المنطقية دون مراعاة التغييرات الجذرية التي أجراها هو نفسه على تفكيره. وإذا كنا لا نشك اليوم في أن فيتجنشتين كان نموذجا للفيلسوف الذي ما فتئ يعدل أفكاره، فقد يكون من المفيد أن نضيف إلى هذا أن الفلسفة كانت بالنسبة له دائما نشاطا "تشخيصيا" للكشف عن الأعراض والأمراض التي تلازم معارفنا. هذا ما يصرح به هو نفسه: "الفيلسوف هو الشخص الذي ينبغي أن يعالج في نفسه عدا من أمراض الفهم قبل أن يتمكن من بلوغ مفاهيم الفهم الإنساني السليم"(2).
        لا تخفى في هذا التعريف الدلالة التشخيصية المقرونة بوظيفة الفلسفة. وليس من المبالغة في شيء تقريب هذا التحديد من تحديد آخر نجده بشكل قوي عند نيتشه حيث يتولى "الفيلسوف-الطبيب" مهمة قراءة الأعراض واستخلاص أمراض الثقافة. فكلا الفيلسوفين يجمعان على الطابع التشخيصي الذي ينبغي أن يتحلى به التفكير الفلسفي، بل كلاهما ينيط بالفلسفة مهاما أسمى وأرقى من تلك التي تناط بالعلوم. فحين يقول فيتجنشتين في كتابه ملاحظات في أسس الرياضيات بأن "مرض عصر ما يعالج بواسطة تغيير نمط عيش الناس؛ ومرض المشاكل الفلسفية لا يمكن أن يعالج إلا بتغيير نمط التفكير والعيش[]"(3)، فإن النبرة التشخيصية تبدو هنا واضحة جدا، على أن هذا الميل إلى التشخيص لا يلزم أن يفهم منه تمجيد للعمل على حساب الفلسفة. فعلى خلاف بعض القراءات الضيقة التي تجعل من فيتجنشتين مناصرا للنزعة العلمية على غرار ما جرت به العادة مع ممثلي حلقة فيينا، نستطيع أن نقول إن معظم مواقف فيتجنشتين كانت تنحو نحو انتقاد الأوهام التي يولدها الإيمان الأعمى بالعلم. وخير ما يدل على هذا هو نقده لأسس الرياضيات.
        لكن المتتبع الجيد سيفطن بلا ريب إلى أن انتقادات فيتجنشتين قد وجهت في الغالب إلى الفلسفة؛ وهو أمر لا يتناقض مع ما قلناه حتى الآن، سيما إذا علمنا أن هذه الانتقادات تنصب، في معظمها، على كيفية استعمال الفلاسفة للغة وليس على الفلسفة في حد ذاتها. وإذا كانت المباحث الفلسفية تمتلئ بالأمثلة العديد التي تؤكد هذا النقد للغة الفلسفة، فإن مسار هذا النقد عند فيتجنشتين يخالف بوضوح المسار الذي اتخذته هذه المسألة عند أقطاب حلقة فيينا. فلا مجال مع فيتجنشتين لتعويض نقص الخطاب الفلسفي بلغة ورائية؛ كما أن لا مجال لاستبعاد اللغة الطبيعية، فهذه الأخيرة تظل من أولى مرامي فلسفة فيتجنشتين الأخيرة. ولذلك لن نستغرب إن وجدناه يقول: "عندما يستعمل الفلاسفة كلمة ما �على سبيل "المعرفة"، "الوجود"، "الموضوع"، "الأنا"، "القضية"، "الإسم"- ويطمحون إلى حيازة ماهية الشيء، ينبغي التساؤل دائما: هل فعلا لهذه الكلمة نفس المعنى في اللغة التي تمثل موطنها الأصلي؟ إننا نعود بالكلمات من استعمالها الميتافيزيقي إلى استعمالها اليومي"(4).
        ويمكن العثور في المباحث الفلسفية على أمثلة كثيرة من هذا القبيل، ذلك لأن حرصه على الانتقال باللغة من استعمالها الميتافيزيقي إلى استعمالها اليومي إنما يترجم في الواقع حرصه على رد الإشكاليات الفلسفية إلى أسس اللغة الطبيعية. لكن قبل تفصيل الحديث في الدواعي الفعلية التي كانت خلف إقبال "فيتجنشتين الثاني" على اللغة اليومية، لابد من التأكيد أن مسألة اللغة ظلت تستأثر باهتمام فيتجنشتين منذ الرسالة المنطقية الفلسفية وإن كنا لا نرى بدا من الاعتراف في المقابل بأن تصوره لها في فلسفته الأولى مباين، في أكثر من جانب،لتصوره لها في فلسفته الثانية. فهو لم يكن يرى من سبيل لفهم قضايا الفلسفة إلا بالرجوع إلى اللغة، وعيا منه بأن إشكالات الفلسفة هي في الأصل إشكالات لغوية. ولعل هذا ما كان يعنيه حين سيقول بأن "المشاكل الفلسفية تولد حين تكون اللغة في احتفال"(5). وهذا التلميح يحتمل في حد ذاته معنيين مترابطين: فهو من جهة أولى يربط مشاكل الفلسفة بوثاق اللغة، لكنه من جهة ثانية يشير إلى أن هاته المشاكل تحيى وتنتعش حين تُمنَح اللغة ثقة فائقة أو تترك دون رقيب.
        والواقع أن كلا المعنيين يفضيان إلى نفس النتيجة ما داما ينتهيان إلى اعتبار اللغة محور التفكير الفلسفي. وسوف لن نعدم الأمثلة العديدة التي تبين هذا التصور، إذ سنرى أن الأفكار التي قادت فيتجنشتين من الرسالة المنطقية الفلسفية إلى المباحث الفلسفية كانت في مجملها أفكارا تدور حول اللغة. وقد لا نستغرب إن ألفيناه في فلسفته "الانتقالية" وفي فلسفته الأخيرة يولي عناية بالغة للنحو الفلسفي، فلمفهوم النحو عنده دلالة متميزة سوف تأتي على ذكر خصائصها في معرض هذه الدراسة.
        1- الطابع التحليلي-الذري لفلسفة فيتجنشتين الأولى
        غني عن البيان أن النزعة التحليلية التي رفعها برتراند راسل منذ أواخر القرن التاسع عشر ضد مثالية برادلي وجواكيم، كانت ترمي في الأساس إلى اقتلاع الحركات الهيجلية الجديدة التي استفحلت بقوة آنذاك في الفلسفة الإنجليزية. وإذا كانت الطريقة التحليلية قد اتخذت عنده آنئذ شكل ذرية منطقية فلأن الخصم الرئيسي كان هو هيجل بفكرته القائلة بوجود حقيقة كلية وواحدة. فعندما يقابل راسل بين "أكسيوم العلاقات الداخلية" و"أكسيوم العلاقات الخارجية"، فلكي يفرق بين فلسفة ذات نزعة واحدية ترى العلاقة مؤسسة دوما على طبيعة الأطراف التي تدخل في علاقة مع بعضها البعض (وذاك هو حال الهيجلية) وبين فلسفة ذرية ترى، على عكس الأولى، أن أية حقيقة معزولة يمكن أن تكونحقيقية على نحو تام ومكتمل(6).
        وليس من الصعب أن نربط بين هذا التوجه التحليلي الذي نادى به راسل وبين دعوى وجود حقائق أولية مثلما ذهب إلى ذلك فيتجنشتين في الرسالة المنطقية الفلسفية؛ ذلك لأن إقرار الرسالة بأن ما من قضية دالة إلا وتقوم على قضايا تتأسس على دلائل "بسيطة"، هي من دون شك فكرة لا يستقيم معناها إلا بردها إلى هذه الطريقة التحليلية التي جهد راسل في وضع دعائمها.
        بيد أنه من اللازم إفراغ هذه الدعوى من الحمولات التجريبية التي ألصقتها بها الوضعية المنطقية. فعندما يؤكد فيتجنشتين على وجود قضايا أولية، لا يعني بذلك أن وجودها يتوقف على تحققها التجريبي بقدر ما يعني فقط أنه يتوقف على ضرورتها المنطقية. وهذا بالضبط ما يرمي إليه حين يقول: "وإذا علمنا أن أسس منطقية خالصة أن من الضروري أن تكون هنالك قضايا أولية، فإن من اللازم إذن أن يكون معلوما من قبل أي واحد يفهم القضايا في صورتها غير المحللة"(7). ويواصل تأكيد هذا الطابع المنطقي عندما يرفع وجودها إلى مستوى قبلي مبعدا إياها عن الدلالة الاختبارية أو التجريبية: "إذا لم أستطع أن أعين القضايا الأولية على نحو قبلي، فإن من الضروري أن يفضي ذلك عندما أريد تعيينها إلى لا معنى بديهي"(8). وهذا تنصيص صريح على ضرورة استبعاد الطرح الاختباري.
        ولعل راسل قد دافع هو الآخر عن نفس الفكرة عندما بين بأن الإقرار بالوقائع الذرية لا يفيد بالضرورة أن بمقدور التحليل الوقوف بالوقائع البسيطة عند نقطة لا تقبل التحليل، لا فقط لأنه كان يؤمن بأن الأشياء المركبة تحتمل التحليل إلى ما لا نهاية دون بلوغ ما هو "بسيط"(9)، وإنما أيضا لاقتناعه بأن نسف هذه الأطروحة يقود إلى السقوط في نوع من التجريبية المبالغ فيها. ومهما يكن الأمر فإن راسل كان يدرك بأن التسليم "بالقضايا الذرية" لا تمليه اعتبارات تجريبية بل اعتبارات نحوية أو تركيبية(10).
        تلك بعض الملامح التي تشهد على التأثير الذي مارسه راسل، لفترة ما، على فيتجنشتين. فمن الواضح أن كتاب الرسالة يستمد معظم مبادئه التحليلية من كتاب نظرية المعرفة الذي أصدره راسل سنة 1913 وضمنه أفكاره التحليلية التي كان على اقتناع بها إلى حدود ذلك التاريخ. وقد لا يغيب عن ذهن أي أحد أن النزعة الذرية التي تتأسس عليها الرسالة إنما تعكس في الواقع هذا التوجه التحليلي الذي دافع عنه راسل من قبل(11). فليس من الصدفة في شيء أن يعتبر فيتجنشتين بأن من الضروري أن تكون هنالك موضوعات وحالات أشياء رغم أن العالم مركب إلى ما لا نهاية له، بحيث إن كل واقعة تتكون مما لا نهاية له من "حالات الأشياء" وكل "حالة شيء" تتكون بدورها مما لا نهاية له من "الموضوعات"(12). فأن يكون العالم بالغ التركيب، لا يلغي إطلاقا وجود موضوعات وحالات أشياء "أولية"(13).
        2- حدود اللغة في منطق الرسالة:
        إذا كان لابد من ربط الطابع التحليلي-الذري للرسالة بتصور هذا الكتاب للغة، فإن أوجز ما يفصح في تقديرنا عن هذا الطابع هو اتخاذ "فيتجنشتين الأول" التعريف الإشاري براديجما أساسيا لتوكيد أو نفي المطابقة بين القضية والواقعة. فمن المعلوم أن هذا البراديجم قد مارس سحره على منطق الرسالة من منطق انسجامه مع مقتضيات الفلسفة الذرية. وما نعنيه هنا بالتحديد هو انشغال فيتجنشتين، في فلسفته الأولى، بحصر كل قضية بما تشير إليه. فقد لعبت نظرية اللوحة (أو الصورة)، التي يقوم عليها عالم الرسالة، دورا رئيسيا في تجزيء "الواقع" إلى عناصر أولية. لكن الجانب المثير حقا في كتاب الرسالة هو التوصل إلى المطابقة التامة بين حدود العالم وحدود اللغة، إذ أن كل ما يقيم "في الجهة" الأخرى من حدود اللغة لا يدخل قط ضمن مجال العالم بل لا يمكن التفكير فيه.
        أجل، إن فكرة الحدود ليست بالأمر العرضي في الرسالة؛ فهيفكرة مركزية نصادفها منذ التصدير إلى نهاية الكتاب، ونستطيع مواصلة رصدها بعد هذا الكتاب نفسه. فمما لا شك فيه أن فيتجنشتين قد انشغل في فلسفته الأولى بتعيين حدود الفكر. ولم يكن هذا الانشغال أمرا طارئا ولا ثانويا، ذلك أن الرسالة قد وحدت بين ما يمكن قوله وما يمكن التفكير فيه إلى حد أن الإثنين أضحيا شيئا واحدا. ولهذا فإن حدود التفكير لن تكون سوى حدود اللغة نفسها. وذاك ما سيؤكد عليه التصدير بشكل صريح: "إن ما يريد هذا الكتاب بلوغه هو رسم حد للفكر، أو بالأحرى، رسم حد لا للفكر وإنما لتعبير الأفكار؛ ذلك لأنه كي يتسنى لنا رسم حد للفكر، ينبغي أن يكون في مقدورنا التفكير في جهتي هذا الحد معا (إذ ينبغي أن نكون قادرين على التفكير في ما لا يمكن التفكير فيه). وهكذا فإن الحد لن يرسم إلا في اللغة، وما يقيم في الجهة الأخرى من الحد هو فقط لا معنى"(14).
        قد لا يمانع البعض في تقريب هذا التصور من التصور العام الذي ينطلق منه النقد الترنسندنتالي لدى كانط؛ إذ لا يخفى على أحد أن النقد الكانطي قد ارتبطت وظيفته برصد حدود المعرفة الإنسانية. بيد أن القراءة التي تميل إلى تقريب "فيتجنشتين الأول" من كانط بدعوى أنهما ينطلقان سويا من فكرة "الحدود"، تظل قراءة مغرضة إذا ما نحن حصرناها عند هذا الحد، فتوقفنا عند ظاهر التشابه دون تعيين سياق ومقام قولي كل واحد من الفيلسوفين.
        والحال أن الاختلاف بين وواضح بينهما. فحديث كانط عن الحدود إنما يأتي في سياق فلسفة النقد التي تنتدب نفسها لتحديد مصادر الميتافيزيقا عن طريق فحص إمكانيات وحدود المعرفة العقلية الخالصة. أما حديث فيتجنشتين عن الحدود فهو يتحدد بسياق لغوي-منطقي، ولا نستطيع فصله عن هذا المجال الذي تعتبره الرسالة "غير قابل للقول" كما سنرى، إذ لا ريب في أن ما يشغل فيتجنشتين ليس هو وضع حدود للمعرفة الإنسانية بل الوقوف على حدود اللغة.
        ليس من العسير إذن أن نعثر في الرسالة على شواهد أخرى تؤكد هذا الطرح المنطقي-اللغوي لمسألة الحدود. يقول فيتجنشتين في نص آخر لا يبارح المعنى الذي ذهبنا إليه: "أن يكون العالم عالمي، فهذا هو ما يظهر في كون أن حدود اللغة (اللغة الوحيدة التي أفهمها) تدل على حدود عالمي"(16). ففي هذه الشذرة تبدو مرة أخرى الصلة القوية التي تجمع بين "حدود اللغة" و"حدود العالم" بحيث يصير جليا، عند كل متمعن في هذا المقطع، أن الإشكالية التي يعالجها فيتجنشتين تخالف في مضمونها الإشكالية التي انتدب النقد الترنسندنتالي نفسه لمعالجتها.
        ولا يقف حديث فيتجنشتين عن مسألة "حدود اللغة" عند الرسالة وحدها، فنحن نستطيع أن نتابع بعض مظاهر هذه الإشكالية في كتبه اللاحقة، أو بالتحديد في ما يصطلح على تسميته بالمرحلة الانتقالية التي تقع زمانيا بين الأعمال التي تلت الرسالة وبين تلك التي تمتد إلى ما قبل المباحث الفلسفية بقليل (أي ما بين 1929 و1936)، رغم أنه قد شرع حينئذ في مراجعة وانتقاد الأطروحات الكبرى التي قامت عليها الرسالة. فإذا أخذنا على سبيل المثال كتاب النحو الفلسفي، الذي يعد من بين أهم الكتب التي تمثل فلسفته الانتقالية، فإننا سنجد مسألة حدود اللغة مطروحة في ارتباط بما "لا يمكن التعبير عنه" رغم أن تصوره للغة بات يأخذ صورته هنا داخل نظرية "قواعد الحساب".
        أما الشاهد على ذلك فيمكن تبنيه في مقطع من النحو الفلسفي على الرغم من أن القضية التي تهمنا لا تظهر فيه إلا في الدرجة الثانية. يقول فيتجنشتين: "... لكن اللغة يمكن مع ذلك أن تتطور" هذا أمر أكيد، بيد أنه إذا كان لكلمة "تطور" معنى في هذا السياق، فإنه ينبغي أن أعرف من الآن ماذا أعنيه عندما أستعملها، إذ ينبغي علي أن أكون قادرا على تعيين ما أتمثله في هذا التطور. وما لا أستطيع الآن التفكير فيه، لا أستطيع أيضا لا التعبير عنه ولا تعيينه. وكلمة "الآن" تدل هنا على "ما في هذا الحساب" أو "حين تكون الكلمات مستعملة حسب هذه القواعد النحوية" [...] لا وجود لأي دليل ولا لأية حجة تقوداننا فيما وراء نفسيهما [...]"(17).
        هكذا يتبين أن قوة هذا المقطع، وإن كانت تنصرف بشكل خاص إلى إثبات صلة اللغة بالحساب، فهي تشير جزئيا إلى حدود اللغة من خلال التأكيد على استحالة التفكير في ما لا نستطيع التعبير عنه. وهي كما سنرى فكرة مركزية في الرسالة. بيد أن المتفحص الجيد قد لا يمانع في الإقرار بوجود نفس الفكرة في أعمال فيتجنشتين الأخيرة مع مراعاة كل التلوينات التي طرأت على هذه الفكرة. ولنتأمل في الشذرة التالية التي تتضمنها المباحث الفلسفية: "تكم نتائج الفلسفة في الكشف عن بعض جوانب اللامعنى وكذا الصدمات التي تلقاها الفهم خلال جريه وراء حدود اللغة. وهذه الصدمات هي التي تسمح لنا بالتعرف على قيمة هذا الاكتشاف"(18).
        وبالرغم من أن هذه الشذرة تحتمل أكثر من تأويل(19)، فإنا نميل هنا إلى القول بأن فكرة "حدود اللغة" لن تختفي تماما من فلسفة فيتجنشتين الثانية، إذ ليس هناك أي مانع من تعايشها مع نظرية "ألاعيب اللغة" التي باتت تحظى بالدور المركزي في المباحث الفلسفية. ولا نرى في الواقع ما يتناقض مع الإقرار بها هنا ما دامت تخلص إلى توكيد حرص "فيتجنشتين الثاني" على كشف مظاهر اللامعنى التي تترتب على القضايا التي تولدها حدود اللغة.
        لكن فكرة حدود اللغة لا يمكن بدورها أن تستقيم في ذهننا إذا لم نضعها على خلفية تمييز أساسي وارد في الرسالة: إنه التمييز بين "ما يمكن قوله" وبين "ما يكتفي بإظهاره" أو الإشارة إليه. فعلى هذا التمييز تتأسس الكثير من أفكار الرسالة.
        3- اللغة بين "ما يمكن التكلم عنه" وما يكتفى "بإظهاره"
        لا يخفى على أحد أن فيتجنشتين ينطلق في الرسالة من التمييز بين مجالين: مجال يمكن "التكلم عنه" أو قوله ومجال لا نملك إلا القدرة على "إظهاره" أو "الإشارة إليه" على شاكلة ما نفعله عادة حين نقول: هذا كذا أو هذه كذا. وليس لقائل أن يقول بأن خوض الرسالة في مجال "غير القابل للتكلم عنه" هو ضرب من اللاعقلانية وخروج عن حدود العقل، لأن الاستيعاب الجيد لمضمون هذه الدعوى التي جاءت بها الرسالة كما سنرى، ينفي عنها في الواقع كل دلالة سحرية أو لاهوتية. إن فيتجنشتين بتحديده للمجال "غير القابل للقول" لم يكن يرمي إلى تثبيت "عالم آخر" تعجز فيه اللغة عن قول ما تريد قوله، ذلك لأن دوافع تحديده لهذا المجال لم تكن قط هيرمينوطيقية بقدر ما كانت منطقية-لغوية.
        وعلى أي حال، فإن فهم الوضع الذي يتبوؤه المجال "غير القابل للتكلم عنه" في الرسالة، لا يمكن أن يتم عندما نفصله عما يكتفى بإظهاره، ولعل وقوفنا بقليل من الإمعان عند فحوى الشذرتين التاليتين، من شأنه أن يوطد هذه العلاقة ويرفع الإبهار الذي قد يوقعنا فيه كل تأويل سيء ومتسرع: يقول فيتجنشتين في الشذرة الأولى: "يمكن للقضية أن تعرض(20) الواقع في مجموعه، لكنها لا يمكن أن تعرض ما يجب أن يكون مشتركا بينها وبين الواقع حتى تتوصل إلى عرضه، أي الصورة المنطقية. ولكي نتمكن من عرض الصورة المنطقية يجب أن نتمكن من التموقع مع القضية خارج المنطق أي خارج العالم"(21).
        ويقول في الشذرة الثانية: "إن القضية لا يمكن أن تعرض الصورة المنطقية، فهذه الأخيرة تنعكس على ذاتها في القضية. وما ينعكس على ذاته في اللغة، فإن اللغة لا تستطيع عرضه [أو تمثيله]. إن ما يعبر عن ذاته في اللغة لا نستطيع نحن ذاتنا التعبير عنه بواسطة اللغة. إن القضية تظهر [أو تشير إلى](22) الصورة المنطقية للواقع. إنها تبرزها"(23).
        إذا تقرر عندنا في الشذرتين أن هناك مستوى لا يمكن تمثله، فإن معنى هذه العبارة لن يستقيم في ذهننا إلا إذا علمنا أن فيتجنشتين يفترض هنا عنصرين يبدو أن بينهما علاقة وطيدة: العنصر الأول، يقوم على استحالة وصف اللغة من الخارج. ومؤداه أن اللغة شاملة؛ وحيث إن الأمر كذلك فإنه لا يتصور أن يكون هناك وضع نكون فيه ما وراء اللغة لوصف اللغة. أما العنصر الثاني، فيقوم على التسليم بأن العلاقات الدلالية التي تضبط توافق اللغة مع العالم، هي دوما مستويات "غير قابلة للقول" لأنها مقتضيات موجودة سلفا. وفي هذا السياق يأتي حديثه عن "الصورة المنطقية" باعتبارها هذه العلاقة الدلالية المشتركة بين اللغة والواقع.
        فإذا عدنا إلى الشذرتين معا، وجدنا فيتجنشتين يلح على عدم تمثيل العبارة للصور المنطقية التي تربطها بالواقع لاعتبار أساسي هو أن هذه الصور تنعكس على نفسها في العبارة ولا تحتاج إلى لغة ثانية لتمثيلها كما سنرى لاحقا في هذه الدراسة. ولما كانت اللغة حسب الرسالة هي مجموع شامل لا يمكن تصور عالم آخر ما وراءه، فإن كل تمثيل للصور المنطقية يستدعي الإقامة خارج المنطق. وهذا ضرب من الاستحالة في نظر الرسالة لأن ذلك يستلزم في هذه الحالة الإقامة خارج العالم.
        وقد لا يتطلب الأمر مجهودا عظيما لإدراك الخلفية التي تفترضها الشذرتين: فهما تؤكدان على التمييز السابق بين "ما يقبل القول" و"ما يكتفى بإظهاره". ولهذا تقول الشذرة الثانية بأن ما يعبر عن نفسه في اللغة، لا نستطيع نحن أنفسنا التعبير عنه بواسطة اللغة؛ وهذه الدعوى لا تنطوي، حسب منطق الرسالة، على أي تناقض لأنها تحيل هنا على "ما يكتفى بإظهاره أو الإشارة إليه".
        ولقد لقيت هذه الدعوى صدى كبيرا في أوساط شراح ونقاد فيتجنشتين بحيث لا نكاد نجد واحد منهم يغفل الإقرار بدورها المركزي في الرسالة، إلى حد أن أغلبهم يعدها العمود الفقري لفلسفة فيتجنشتين الأولى. ولعل دراسة ميريل وجاكو هنتيكا هي واحدة من بين أطراف وأدق الدراسات التي تولت هذه المسألة بعناية بالغة بحثا وتنقيبا.
        أما طرافتها ودقتها فتعودان إلى اجتهاد هذين الباحثين في الربط بإحكام بين المجال الذي "يكتفى بإظهاره" وبين مقتضيات لسانية-منطقية عامة. إن فكرة المجال الذي "يكتفى بإظهاره" تستمد أصلها حسب جاكو هنتيكا وميريل هنتيكا من مصدرين منصوص عليهما في الرسالة: المصدر الأول يقوم على أطروحة عامة مفادها أن جميع العلاقات الدلالية هي دوما "غير قابلة للقول". أما المصدر الثاني فيقوم على أطروحة خاصة مفادها أن الموضوعات البسيطة وكذا صورها المنطقية هي الأخرى من مستوى "غير قابل للقول"(24).
        ولنعد إلى الأطروحة الأولى لتفصيل الحديث عنها: إذا وضعنا في الاعتبار أن ما يدعوه هذان الباحثان "علاقات دلالية" هي جملة ما تسميه الرسالة علاقات التوافق الناشئة بين العبارة وبين الوقائع الذرية (أو في كلمة واحدة هي المعنى الذي يكتفى بإظهاره)، فإننا سندرك بأن هذه العلاقات لا تدخل في حيز "ما يمكن قوله" لأنها -كما مر معنا- مقتضيات مفترضة لكن "غير مشار إليها". وعلة ذلك أن هذه العلاقات الدلالية، أو بالتحديد هذه العلاقات "الإسقاطية" كما تسميها الرسالة، تنزل في منزلة ما يربط العبارة بالوقائع الذرية لكنها تظل بمنأى عن التعبير؛ إذ لما كانت القضية لا تمثل سوى الوقائع في مجموعه مع استحالة تمثيلها لما هو مشترك بينها وبين الواقع، فقد اتضح حينئذ لماذا تبقى العلاقات الدلالية من مستوى ما لا يمكن تمثيله.
        أما تفصيل الأطروحة الثانية فيستوجب الوقوف عند الموضوعات البسيطة التي تحفل بها الرسالة، إذ أن وجود هذه الموضوعات لا يمكن إلا أن "يشار إليه" باستعمال أسمائها في اللغة؛ فهي لا تدخل في مجال "ما يمكن قوله" وإنما في مجال "ما يكتفى بالإشارة إليه أو إظهاره". وبما أن الرسالة ترى بأنه بمجرد ما تعطانا الموضوعات، تعطانا في الآن نفسه كل الموضوعات؛ فهي تخلص إلى نفس النتيجة بالنسبة للقضايا الأولية: فبمجرد ما تعطانا القضايا الأولية تعطانا في الآن نفسه كل القضايا الأولية(25).
        ونتيجة لذلك فإن العالم من حيث هو كل يدخل في مجال "ما لا يقبل القول" لأن حدوده هي الأخرى غير قابلة للقول حسب الشذرة 5.61 التي تجعل من حدود العالم هي ذاتها حدود المنطق. وأما علة عدم قابلية حدوده للقول، فيرجع إلى أنها تتحدد بمجموع الموضوعات البسيطة وبمجموع القضايا الأولية.
        وتتفرع عن هذه المسألة نتيجة أخرى تنتهي إلى الإقرار بأن كل الصور المنطقية التي تتأسس انطلاقا من موضوعات بسيطة، تدخل في مجال "ما لا يمكن قوله". ويذهب كل من جاكو هنتيكا وميريل هنتيكا بعيدا في تأويلهما لهذه النقطة، إذ يعتبران بأنه لما كان فيتجنشتين يرى من الاستحالة قول ماهية الموضوع البسيط فإن من الاستحالة أيضا قول صورته المنطقية. أما تعليل ذلك فيرجعانه إلى فكرة عدم قابلية قول الصور المنطقية، نتيجة لفكرة رد جميع الصور المنطقية إلى الموضوعات البيسطة(26).
        وعلى العموم فإن الاقتصار على حصر كبرى قضايا الرسالة في مجال "ما يمكن التكلم عنه" دون الاكتراث كثيرا بقضية "غير القابل للتكلم عنه"، قد يحجب عن صاحب هذه الدعوى جانبا لا يقل أهمية عن الدعاوى الأخرى التي تتضمنها الرسالة، نعني هنا مسألة "الصوفية" التي يشدها إلى مشكل "اللامعبر عنه" أكثر من رابط. فهذا فيتجنشتين يقول: "إن هناك من دون شك جانبا غير قابل للتكلم عنه. وهذا الأخير يشير إلى نفسه إنه هذا العنصر الصوفي"(27). لكن هذا الجانب الصوفي يستوجب توضيحا سريعا لإزالة بعض التأويلات الخاطئة التي نسجت حوله رغم أن لا أحد يستطيع إنكار صعوبة تدقيق مدلوله في استعماله من قبل فيتجنشتين.
        فعلا، من أعقد القضايا التي تثيرها هناك مشكل "العنصر الصوفي" الذي نستطيع اعتباره مظهرا من مظاهر ميتافيزيقية هذا الكتاب. لكن التأويل السيئ الذي يميل إلى تقريب هذه القضية من فكرة المكاشفة والذوق، قد يحجب عن صاحبه المدلول الفعلي الذي دعا فيتجنشتين إلى إثارة "العنصر الصوفي" عند نهاية الرسالة؛ فالواقع أن "صوفية" هذا الكتاب لا ينبغي أن نفهم على غرار ما نعنيه عادة بالتصوف. إن فهمها على نحو صحيح يستدعي ربطها بما لا يمكن للغة التكلم عنه كما ينصح بذلك فيتجنشتين نفسه. وهذا معناه أن الجانب الصوفي هو ما يكتفى بإظهاره أو الإشارة إليه. وبفعل هذا فإن له في الرسالة مظاهر مختلفة نستطيع حصرها في العلامات التالية:
        أ- مةن اللغة لا تستطيع التكلم عن "فعل" اللغة بل تكتفي بإظهاره.
        ب- كونها لا تحتاج إلى لغة ورائية أو لغة شاملة قادرة على التعبير عن كل ما يمكن التكلم عنه.
        ج- كونها لا تستطيع أن تقول ما هو العالم بل فقط حصر مجموع حالات الأشياء الموجودة.
        د- كونها تكتفي بحصر القضايا الأولية دون القدرة على تحديد ما هي اللغة.
        هـ- كونها تكتفي بإظهار وجود "الموضوعات" دون التمكن من قولها(28).
        ولعل الناظر في هذه المظاهر قد لا يفوته الانتباه إلى المكانة المرموقة التي تحتلها فكرة العالم ضمن التمييز الذي تضعه الرسالة بين "ما يمكن التكلم عنه" وما "يكتفى بإظهاره". فمما لا ريب فيه أن فكرة العالم توجد في قلب مسألة اللغة لا فقط لأن فيتجنشتين كان منشغلا في فلسفته الأولى برصد علاقات المطابقة التي تقوم بين العبارة والواقعة، وإنما أيضا لأن جزءا عظيما من مجهوده كان منصرفا إلى وضع حدود بين "ما يمكن التكلم عنه" وما "يكتفى بإظهاره".
        4- اللغة وفكرة العالم:
        بالرغم من أن غالبية النقاد تعتبر الرسالة كتابا في المنطق، فإننا لا نستطيع إنكار جانبه الميتافيزيقي ولا أيضا بنيته الأنطولوجية. فالراجح عندنا أن فيتجنشتين قد اضطر دوما إلى مواجهة مسائل ميتافيزيقية على الرغم من حرصه على تفادي الخوض في متاهاتها. ويكفي تفحص كتاب الرسالة لكي يتبين أنه قد انطلق من البحث في أسس المنطق واللغة ليجد نفسه أمام مشكلة العالم، وبالتحديد أمام "وجود العالم". وهذه النقطة تكتسي في نظره قيمة خاصة بدليل قوله: "إن الجانب الصوفي ليس هو: كيف يوجد العالم، بل هو كونه موجودا"(29).
        وإذا استحضرنا في ذهننا أن الجانب الصوفي هو مرادف "لما لا يمكن التكلم عنه"، فإن وجود العالم هو أمر يكتفى بإظهاره دون التعبير عنه. لكن الرسالة لا تقتصر على إبراز هذا بل تفرض على العالم الشروط المنطقية التي يتعين عليه احترامها لكي تصير اللغة أمرا ممكنا؛ فكل ما يتعدى حدود اللغة هو ضرب من اللامعنى. ويبدو أن هذه الصرامة المنطقية هي التي تجعل فكرة العالم تابعة لقيود اللغة، فما يبتغيه فيتجنشتين هو إحلال "رؤية صحيحة للعالم" محل "رؤية خاطئة". لكن، أليس هذا ذاته ما كان يقصده في الشذرة ما قبل الأخيرة من كتاب الرسالة حيث يكون على القارئ الذي يفهم فيتجنشتين فهما جيدا أن يتغلب على قضاياه لكي "يرى العالم بعدئذ بشكل صحيح"(30)؟
        ترى ماذا يعني فيتجنشتين عندما يتحدث عن "رؤية العالم بشكل صحيح"؟ هل يقصد رؤية العالم وفق أنطولوجيا الرسالة أم وفق حدود اللغة؟ الواقع أن كلا الأمرين شيء واحد، سيما إذا أدخلنا في الحسبان أن حدود العالم هي ذاتها حدود اللغة. فمتى أمعنا النظر مليا في الكتابات التي تلت الرسالة، وجدنا حرص فيتجنشتين على إظهار أن النحو يفرض دوما كيفية محدودة لرؤية العالم، بحيث يبدو كما لو أن لا وجود سوى لهذه الكيفية. ومن هنا فإن "ما يمكن للغة أن تقوله هو فقط ما بإمكاننا تمثله على نحو آخر"(31). وإذا كنا من جهة أخرى لا نضع العالم موضع تساؤل جذري، فلأننا لا نملك، في نظر فيتجنشتين، صورة أخرى مناقضة لصورة عالمنا(32)؛ فنحن في جميع الأحوال لا نسقط على العالم سوى الصورة المنطقية ذاتها التي نتناقلها بواسطة لغتنا.
        واضح إذن أن صورة العالم هي من صورة اللغة؛ لكن هذا ذاته ما يفرض على العالم قيودا لغوية، أو لنقل قيودا نحوية: "إن ماهية اللغة هي صورة لماهية العالم؛ والفلسفة، باعتبارها المدبرة للنحو، يمكن فعلا أن تمسك ماهية العالم لا في قضايا اللغة بلا ريب، وإنما في قواعد هذه اللغة التي تقصي توليفات الدلائل التي تفضي إلى اللامعنى"(33).
        غير أن مقصد فيتجنشتين -وعلى عكس ما قد يوحي به كلامه ظاهريا- لا يتمثل إطلاقا في تكرار ما رددته الكثير من الفلسفات التقليدية، نعني الفلسفات التي انتدبت نفسها لتعيين تخوم العالم داخل أطر اللغة، لاعتبار أساسي هو أنه ينكر وجود أساس "موضوعي" يمكن من تحقيق ذلك. فمتى أدركنا عدم توفر هذا الأساس، أدركنا في الآن نفسه أن اللغة لا يمكن أن تدل إلا على عالمها؛ وعليه فإن عالمها هو دوما من قبيل ما هو مسلم به. يقول فيتجنشتين: "هناك محاولة تنبعث باستمرار لتحديد العالم داخل اللغة وجعله مرئيا-لكن هذا لا يمكن أن يتم. إن العالم مسلم به، وهذا شيء يعبر عنه بالضبط في كون أن اللغة لا تملك إلا هذا العالم �ولا يمكن أن تملك إلا هذا- للدلالة عليه. وحيث إن اللغة لا تستمد كيفيتها في الدلالة سوى من دلالتها على العالم، فإنه لا تتصور لغة لا تمثل هذا العالم"(34).
        وعلى الإجمال، فإن تأويلنا لن يكون مغرضا ولا مبالغا فيه إن نحن استخلصنا من هذا الموقف الذي يقفه فيتجنشتين نقدا "للنزعة الموضوعية" ولخلفياتها الفلسفية. ولعل ماسلاو كان على حق حين اعتبر أن الرسالة جاءت في مجملها لتقويض خطإ فلسفي عمر طويلا، خطإ اختار هذا الباحث تسميته "المنظور الملائكي"؛ وهو يعني به هذا المنظور "الموضوعي" الذي يعتقد في إمكانية التعبير عن العالم من نقطة خارج العالم الذي يقيم فيه الناظر(35). من هنا فإن نقد "المنظور الملائكي" يتولى دحض التصور الذي ينزع إلى الاعتقاد في إمكانية الإقامة "داخل" اللغة و"خارجها" في آن واحد.
        ولا يخفى أن هيلاري بوتنام قد انتبه هو الآخر إلى هذا التصور الميتافيزيقي واعتبره سمة عامة تطبع الكثير من مواقف الفلاسفة، فسماه "المنظور الإلهي" كناية على هذه النزعة الموضوعية المستفحلة في أوساط الفلاسفة. ونحن واجدون نفس التصور عند ريتشارد رورتي في معرض انتقاده لتاريخ الميتافيزيقا.
        وكيفما كان الحال، فحتى وإن كنا لا نعثر في أقوال فيتجنشتين على نقد صريح للنزعة الموضوعية، فإن مقتضى أفكاره لا يتعارض البتة مع مضمون هذا النقد مادام يميل إلى نفي كل أساس "خارجي" يكون بمثابة قاعدة "موضوعية" للتكلم عن العالم لأن هذا الأخير هو كل ما تملكه اللغة للدلالة عليه. لهذا لن نستغرب إن نحن وجدنا الرسالة تثير نزعة "الانعزال الذاتي" في معرض حديثها عن العالم وحدود اللغة، شريطة طبعا فهم هذه النزعة في وضعها الصحيح وتجنيبها سوء الفهم الذي يمكن أن يلحق بها.
        فعلا، إن السياق الذي تدرج فيه الرسالة نزعة "الانعزال الذاتي" لا يدع المجال للشك في تبين صلة هذه النزعة بنقد كل تصور يرى أن من الممكن تجاوز حدود العالم والنظر إليه من "نقطة خارجية". فأسباب إدراج فكرة "الانعزال الذاتي" تأتي نتيجة عجز "الذات" عن النظر للعالم من زاوية "موضوعية"، أي من زاوية تقع خارج حدود المنطق وحدود العالم. وعليه، فإنه ينبغي التذكير بأن فيتجنشتين لا يقصد هنا "العزلة الميتافيزيقية" لأنه لا يرمي بذلك إلى إنكار وجود العالم الخارجي. كما أنه لا يقصد "العزلة الإيبستمولوجية" مادام لا يعني بهذا إنكار الذوات العارفة الأخرى التي تخالف ذاته.
        وإذا تركنا جانبا التأويلات العديدة التي قدمت كتفسير لتعليل أسباب لجوء فيتجنشتين إلى نزعة "الانعزال الذاتي"(36)، ووجهنا انتباهنا إلى هذا التأويل الذي اخترنا الانطلاق منه هنا، فسيسهل علينا حينئذ أن ندرك من جديد لماذا أقرت الرسالة بأن حدود العالم هي ذاتها حدود المنطق أو اللغة. فعندما ندير الأمر مليا في ذهننا، سيبدو لنا أن مقصد فيتجنشتين لم يكن هو إثبات "عزلة الذات" عن العالم وعن الآخرين بل تأكيد "منظورية" الذات إزاء العالم وإزاء اللغة: فأن يكون العالم عالمي أنا، يرجع دوما إلى تأكيد أن حدود لغتي هي حدود عالمي. هذا فيما يبدو هو الذي يقوده إلى القول: "أنا هو عالمي"(37).
        لن نستغرب إذن إن أفضت الرسالة إلى هذه "العزلة الذاتية"، فهي نفسها تقر بأن "ما تقصده نزعة "الانعزال الذاتي" صحيح تمام الصحة، إلا أن هذا لا يمكن أن يقال وإنما يظهر"(38). فأن يكون العالم دوما عالمي أنا، هو بالضبط ما يكتفى بإظهاره دون قوله. وليس أدل على صلة نزعة "الانعزال الذاتي" بهذا التصور "المنظوري"، من كون أن فيتجنشتين يتأدى إلى استبعاد كل نظام قبلي للأشياء مؤثرا القول بأن كل ما نراه يمكن أن يكون أيضا على نحو آخر(39). لكن هذا "الانعزال الذاتي" الذي تخلص إليه الرسالة ليس "انعزالا ميتافيزيقيا" ولا "إيبستمولوجيا" كما رأينا ما دام يلتقي مع ما يسميه فيتجنشتين "بالواقعية الخالصة"(40).
        5- في تناقض القول باللغة الورائية:
        لا يخفى أن فيتجنشتين قد عبر في غير ما مناسبة عن رفضه الإقرار بوجود لغة ورائية تكون بمثابة لغة فوقية تعلو على اللغة العادية. والواقع أن لا فارق بين رفضه الإقرار بلغة ورائية وبين رفضه الإعلان عن وجود فلسفة ورائية (أو فوقية)، لأن المغزى من الفكرتين معا هو نفي كل ما من شأنه أن يفضي إلى الاعتقاد في وجود "لغة للغة" أو لغة من درجة ثانية، لا فقط لأن ادعاء هذه الأطروحة يقود قائله إلى التسليم بتسلسل اللغات إلى ما لا نهاية بل أيضا لأن تدعيمها يتناقض مع الفكرة القاضية بعدم ضرورة وجود لغة ثانية فوق اللغة الطبيعية كلما تطلب الأمر الحديث عنها.
        لا عجب إذن أن يصرح فيتجنشتين بأنه طالما لا توجد هناك ميتافيزيقا، فإن لا إمكانية لوجود منطق ورائي أو منطق للمنطق؛ إذ لما كانت الماهيات التي اصطنعتها الميتافيزيقا وسمت بها فوق الواقع لا تعدو أن تكون نتاجا للغة الطبيعية، فإن كل اعتقاد ينص على حاجتنا لمنطق آخر فوق المنطق كلما اقتضى الأمر الحديث عن هذا الأخير، يبقى في رأي فيتجنشتين اعتقادا ميتافيزيقيا بدوره لأنه ينصب فوق اللغة لغة أخرى، ظنا منه أنتحويل اللغة الطبيعية إلى موضوع للحديث يستدعي وجود لغة ورائية.
        والحال، أن هذا التوجه الذي يختاره فيتجنشتين إنما يرمي في الواقع إلى اقتلاع فكرة ساهم بعض المناطقة بشكل كبير في ترسيخها، نعني الفكرة التي ترى في الحديث عن الفلسفة "فلسفة للفلسفة" وفي الحديث عن المنطق "منطقا للمنطق" وفي الحديث عن الرياضيات "رياضيات للرياضيات". وهذا بالضبط ما يجزم فيتجنشتين بعدم قبوله حين يقول: "يمكن أن نظن أنه طالما أن الفلسفة تتكلم عن استعمال لفظ "فلسفة"، فإن من الضروري أن تكون هنالك فلسفة من درجة ثانية. لكن الأمر ليس على هذا الحال؛ فعلى خلاف هذا، نحن أمام شبيهة بضبط الإملاء الذي يهتم أيضا بلفظ "ضبط الإملاء" لكنه ليس مع ذلك من درجة ثانية"(41).
        وحيث إن الفلسفة لا تتطرق للحساب في حد ذاته وإنما لمفهوم الحساب، فإن هذا يولد الاعتقاد بأن هناك مفهوما "لحساب كل الحسابات"؛ وهو ما يفسح المجال أمام احتمال قيام نوع من "الميتا-فلسفة". بيد أن الأمر ليس كذلك في نظر فيتجنشتين لأن "من المسموح لي استعمال كلمة "قاعدة" دون اللجوء أولا إلى جدول لقواعد استعمال هذه الكلمة. وهذه القواعد ليست قواعد من صنف أعلى"(42). وبالمثال فإن استعمال لفظ "قضية" لا يتوقف إطلاقا على وجود جدول لقضايا كل القضايا.
        فعلا، يخصص فيتجنشتين حيزا كبيرا لتحديد امتدادات هذه الفكرة وبعض مبرراتها ودواعيها. ومما لاشك فيه أنه قد سلك أكثر من سبيل لتشخيص مظاهرها؛ مما يعني حتما أنها تتصدر قائمة الموضوعات التي باتت تشغله بعد إصداره لكتاب الرسالة. وهكذا نراه مثلا يتصدى لنفس الفكرة في مضمار حديثه عن الدلالة. فهو يبين أن تفكير الفلسفة في اللغة والدلالة قد يخلق لديها اعتقادا بأن حديثها عن الكلمات والقضايا يخالف الاستعمال العادي بحيث تنزع إلى الإقرار بأن هنالك "صنفا لكل القضايا"؛ وهو ما ينتهي بها إلى تصورها كما لو أنها وحدة مثالية. يتجلى ذلك حين تعتبر الدلالة شيئا ينتمي إلى نفس صنف الكلمة لكن متميزة عنها مع ذلك، إذ يبدو كما لو أننا أمام كلمات من جهة ودلالات من جهة أخرى(43). وهذا التصور نستطيع أن نعتبره هنا مفعولا للإيمان بوجود لغة للغة، وهو الشيء الذي يعيبه فيتجنشتين بالضبط على فلسفة المنطق. لكن إذا كنا نسجل بجلاء إصرار فيتجنشتين، سواء في فلسفته الأولى أو في فلسفته الثانية، على دحض اللغة الورائية، فإننا لا نعدم في المقابل بعض الأمثلة التي تشهد على انتصاره لفكرة شمولية اللغة، إذ لا تناقض بين هذين الموقفين(44).
        وبناء على كل ما تقدم، فإن أسباب رفض فيتجنشتين لوجود لغة مثالية قد تتفاوت بتفاوت الأفكار التي قادته إلى تغيير وتعديل الكثير من أطروحاته الفلسفية.
        ولعل التعليل الذي يقدمه الدفتر الأزرق يمكن أن يكون سببا واحدا من بين الأسباب الأخرى التي دعته إلى مقاومة الفكرة الداعية لضرورة قيام لغة مثالية، إذ يتعلق الأمر هنا بالاعتراف للغة الطبيعية بنوع من الاكتمال الذي يغنيها عن كل مساعدة خارجية قادمة من لغة أخرى أعلى منها رتبة ودقة. وفي هذا الصدد يقول فيتجنشتين: "إن من الخطإ الاعتقاد أن الفيلسوف يحيل على لغة مثالية مخالفة للغة المشتركة. فقد يقودنا هذا إلى الاعتقاد بأن اللغة العادية يمكن أن تخضع للتطوير. لكن اللغة العادية كاملة. وحين نحيل أنفسنا على بعض "أشكال التعبير المثالية"، فإن الغرض من ذلك ليس هو إحلال هذه الأشكال محل أشكال اللغة العادية، بل غاية ما في الأمر هو مساعدة فرد ما على التخلص من هذه الفكرة التي تقلقه، أقصد نجاحه في حيازة الشكل الدقيق لاستعمال كلمة معينة في اللغة المشتركة. لهذا تتبنى هذا المنهج الذي لا يقتصر على إحصاء الأشكال العادية لاستعمال كلمة ما بل يجهد أيضا بترو في خلق أشكال جديدة أخرى وأحيانا بسبب لغوها الظاهر"(45).
        وعلى خلاف ما قد نعتقد للوهلة الأولى، فإن فيتجنشتين رفض الإقرار بوجود لغة ورائية منذ الرسالة لاعتبارات ذات صلة بالتمييز الذي وقفنا عنده سابقا، نعني التمييز بين "ما يقال" و"ما يكتفى بالإشارة إليه". ويكفي تتبع منطق فقرات هذا الكتاب لكي يتبين بجلاء أن استبعاده لكل لغة ورائية إنما يأتي كنتيجة طبيعية لاقتناعه بأن اللغة لا يمكن قط أن تكون موضوعا للغة لاعتبار رئيسي هو انعدام اللغة الشيئية. وهذا التصور لا يفضي إلى أي تناقض حتى وإن اعترفنا في المقابل بأن نظرية اللغة التي تقوم عليها الرسالة لا تلغي قدرة اللغة على الحديث عن نفسها بمعنى من المعاني؛ ذلك أن ما نقصد إليه حين نقول: "إن اللغة لا يمكن قط أن تكون موضوعا للغة" هو إزالة الاعتقاد الذي يفترض أننا بحاجة دائمة إلى "لغة ثانية" للحديث عن "اللغة الأولى". والحال، أننا في جميع الحالات أمام لغة واحدة ومكتفية بذاتها.
        لهذا الاعتبار أيضا فإن فيتجنشتين عندما عين في الرسالة مجالا يكتفى بإظهاره دون قوله، لم يكن يرمي إلى الوقوف على مواطن "عجز" اللغة أو "عدماكتمالها" بقدر ما كان يرمي إلى توكيد مبدإ "اكتفائها بذاتها"؛ وهو مبدأ يدعم إلى حد كبير الموقف القائل بأن اللغة واحدة، ويرفض بالتالي التمييز بين "لغة واصفة" و"لغة موضوعة للوصف". على أن أسوأ تأويل هو ذاك الذي يذهب إلى حد الاعتقاد بأن التفريق بين "ما يقال" و"ما يكتفى بإظهاره" مرده إقرار فيتجنشتين بوجود "نقص" أو "فراغ" في اللغة(46). فهذا التأويل مردود على أهله بسبب عدم انسجامه مع مرامي ومقتضيات الرسالة نفسها.
        وهكذا يمكن القول إن دلاليات الرسالة تفسح المجال للحديث عن أكثر من نظام رمزي واحد، لكنها في الطرف المقابل تمتنع عن التسليم بأية لغة ورائية للاعتبارات التي شرحناها سابقا. ولا يخفى أن هذا الموقف الذي اختاره فيتجنشتين كان واحدا من بين الأسباب التي نمت الخلاف بينه وبين الوضعية الجديدة. فكارناب، الذي يعد من أبرز أقطاب حلقة فيينا، لم يكن يرى أي مانع من الدفاع عن لغة ورائية رغم أنه قد قبل التمييز بين مجال "ما يقال" ومجال "ما يكتفى بإظهاره". لقد قدم في كتابه التركيب المنطقي للغة تصورا مخالفا لفيتجنشتين، بين فيه أن من الممكن صياغة تركيب لغة ما على نحو دقيق مضاه للهندسة، كما ذهب فيه إلى أن لا شيء يمنع من صياغة تركيب ذي معنى للغة معينة داخل لغة ورائية بحيث تكون هذه اللغة الاصطناعية هي نفسها اللغة الأصلية في بعض الحالات.
        إذا فحصنا تصورات فيتجنشتين للغة، فإننا سنجد حتما تباينات صريحة بين تصورات الرسالة التي تقوم على نموذج إشاري وتصور المباحث الفلسفية الذي ينطلق من ألاعيب اللغة. لكن إذا عدنا إلى اللغة الورائية وحاولنا فهم دواعي رفضها، فإننا سندرك بأن فيتجنشتين ما فتئ يقاومها في أكثر من واجهة، وهذا منذ إصداره كتاب الرسالة إلى آخر مخطوطاته. وقد لا نجانب الصواب إذا نحن قلنا إن هذه المسألة قد تلونت عنده بألوان مختلفة واتخذت أكثر من معنى رغم أن جوهرها لم يلحقه أي تغيير في العمق.
        فإذا رصدنا مثلا مظاهر هذه المسألة في كتابه المباحث، وجدناه لا ينفك يعود إليها في معرض حديثه عن النحو. يتضح ذلك جليا حالما نعلم أن النحو لدى فيتجنشتين يعكس خصائص العالم الداخلية بواسطة اللغة نفسها التي يتولى تعقيدها؛ لكنه لا يحتاج إلى لغة ورائية تتناول بشكل مفصول النحو وموضوعاته لأننا من جهة أولى لا نستطيع فصل النحو عن استعمالات اللغة، ومن جهة أخرى لأن منطق العالم شيء ظاهر في استعمال اللغة لكنه غير قابل للوصف في اللغة. ويبدو أن هذه الفكرة هي التي كان يقصدها حين سيعود، مرة أخرى، في آخر ملحوظاته التي جمعت تحت عنوان في اليقين، وذلك حين يقول: "ألست مقادا بالتدريج إلى القول بأن المنطق في نهاية المطاف ليس قابلا للوصف؟ يكفيكم النظر في تطبيق اللغة لكي تروا ذلك"(47).
        لكن يحق لنا أن نضيف إلى هذا أن الأسباب التي دعته إلى رفض اللغة الورائية لا تنفصل إجمالا عن اقتناعه، منذ تأليفه للرسالة، بأن كل القضايا التي تتكون منها اللغة اليومية "منظمة منطقيا على نحو كامل"(48). فهذا الاقتناع إنما يجد مصدره في كون اللغة الطبيعية "منطقية" ولا تفتقر إلى لغة مثالية لسد فراغاتها. والظاهر أن هذه الفكرة هي التي تستعيدها إحدى ملحوظات فايزمان: "نحن لسنا بحاجة إلى خلق "لغة مثالية" لكي نعيد إنتاج الواقع. إن لغتنا اليومية هي قبل هذا صورة منطقية طالما أننا نعرف فقط بأية كيفية تشير كل كلمة من كلماتها. وكل شيء يتوقف فقط على وضع قواعد التركيب ضمن نسق ما"(49). وهذه إشارة صريحة إلى أن اللغة لا تخلو من التنظيم، إذ كل ما يقتضيه الأمر هو جعل مستواها التركيبي (النحوي) بسيطا وواضحا في مجمله.
        6- اللغة الطبيعية في فلسفة فيتجنشتين الثانية:
        هناك كثير من المؤشرات تدل بوضوح على أن التحول الجذري الذي عرفته أفكار فيتجنشتين الأخيرة إنما يرجع في مجمله إلى تغييره للبراديجم اللغوي الذي أسس عليه كتابه الرسالة. وإذا بدا واضحا أنه أصبح يرد الاعتبار، منذ الفترة الانتقالية، للغة الطبيعية، فلأنه لم يعد مقتنعا بالنمذجة التي اقترحها للغة قبل ذلك الحين.
        لقد اعتقد فيتجنشتين، أثناء فلسفته الأولى، أن اللغة نوعان: "لغة أولية" أو فينومينولوجية تعبر عما نعرفه حقيقة، أي عن الظواهر؛ ولغة يومية أو "ثانوية" تستعمل في تداولاتنا العادية. وكان على اقتناع آنذاك بأن ثمة ضربا من التعارض يفرق بينهما. إلا أنه سيتخلى لاحقا عن هذه النمذجة ليقر بأن لا لغة إلا اللغة اليومية(50). ويبدو أن هذا التحول سيكون على حساب "اللغة الفينومينولوجية"، إذ سينفي وجود هذا النوع من اللغة ليحتفظ فقط باللغة المادية التي يراها مطابقة للغة اليومية.
        ولعل الناظر في مسار فلسفة فيتجنشتين سوف لن يقف به نظره عند هذا الحد، فهو سيجد حتما مواقف متقلبة بشأن اللغة وأحيانا "متناقضة" مع بعضها البعض. بيد أن الكثير من هذه المواقف قد تتجلى إذا أدركنا أن فيتجنشتين قد تبنى في فلسفته الأولى "تعريفا إشاريا" للغة مناسبا، من حيث بنيته، لمنطق الرسالة الذي يسند للكلمة دور الإشارة إلى الواقع. وسيشرع تدريجيا في التقليص من حجم هذا النموذج الإشاري بعد أن بدأت تتأكد له أهمية ألاعيب اللغة، الأمر الذي سيبرز أكثر في فلسفته الأخيرة.
        وبوسعنا أن نقول إن نظرية ألاعيب اللغة قد تبلورت عنده في شكلها النهائي في كتابه المباحث الفلسفية بعد أن أصبحت تمثل المجال الرئيسي لتعلم اللغة وقيام الدلالة. لذلك لن نستغرب إذا وجدناه يقول: "اعتبروا لعب اللغة كعنصر أولي"(51). ففي هذه الإشارة تأكيد صريح منه على أن ألاعيب اللغة قد أضحت الآن البراديجم اللساني الأساسي لتفسير معظم قضايا اللغة. لكن يحق لنا أن نضيف إلى ما سبق أن المنزلة الخاصة التي تتبوؤها ألاعيب اللغة هي التي تفسر، في الغالب، ازدياد وعي "فيتجنشتين الثاني" بقدرات وإمكانات اللغة الطبيعية.
        هكذا، عندما يدعو فيتجنشتين إلى ضرورة العودة باللغة من استعمالها الميتافيزيقي إلى استعمالها اليومي، فهو يرد الاعتبار للغة الطبيعية، وفي الوقت نفسه يجدر التفكير الفلسفي في أرضية المسائل "البسيطة" و"العامية"، سيما أن مهمة الفلسفة تقوم بالأساس على تعرية الجوانب غير الواضحة في مجال ما يتم اعتباره عادة شيئا "بديهيا": "إن مظاهر الأشياء الأهم بالنسبة لنا تظل مخيفة لبساطتها وعاميتها. (وهذا أمر لا يمكن ملاحظته لأنه يقع دوما تحت أبصارنا"(52).
        لنفس الاعتبار تحرص المباحث على التنبيه لأشكال الزيف التي تمارسها الصيغ اللغوية على أصحابها، خصوصا عندما تكون هذه الصيغ متجذرة ومترسبة لدى مستعمليها. فالواقع أن كتاب المباحث لا يتخلى فقط عن بعض مظاهر الصرامة المنطقية التي طبعت الرسالة بل يعمد فضلا عن هذا إلى قياس دلالات العبارة انطلاقا من استعمالاتها. وليس من شطط القول إن ذهبنا مع معظم دارسي فيتجنشتين إلى حد القول بوجود هوة سحيقة بين الرسالة وبين المباحث. فهذا التباين الشديد بين الكتابين يشهد في الواقع على التباين الصريح بين "فيتجنشتين الأول" و"فيتجنشتين الثاني". ولا يسع القارئ حين يقارن بين الكتابين إلا أن يكتشف بنفسه وجود فروق حقيقية بين الإثنين: فعلى حين تختص الرسالة بالحديث عن اللغة في وضعها المنطقي، تنشغل المباحث بفحص آلاعيب اللغة واستعراض تعدد استعمالاتها. وفي الوقت الذي يهتم "فيتجنشتين الأول" بمعرفة ما تسمح اللغة عموما بقوله يهتم "فيتجنشتين الثاني" بإظهار تنوع استعمالات اللغة العادية، حيث يبدو كما لو أن اهتمامه قد انتقل من اللغة في حدودها المنطقية إلى اللغة من حيث هي عبارات تدور في اللسان الطبيعي. وقد لا نحتاج إلى جهد كبير لبيان أن "فيتجنشتين الثاني" باتت تؤرقه، في المقام الأول، قواعد التداول التي تنضبط لها اللغة الطبيعية.
        صحيح أن الرسالة لن تخفي بدورها تعقد "اللغة المألوفة بدليل أنها سترى أن من المستحيل إنسانيا أن نستخلص منها مباشرة منطقا للغة"(53)، إلا أن المباحث هو الكتاب الرئيسي الذي تولى فيه فيتجنشتين عرض التلوينات التي تنطوي عليها اللغة اليومية في ارتباط دائم بنظرية ألاعيب اللغة.
        فعلا، لقد اعتبرت الرسالة أن أفضل طريقة فلسفية هي "ألا يقال قط سوى ما يمكن قوله"(54) لأن الحل يقوم في نظرها على التمييز بصرامة بين "ما يمكن التكلم عنه" و"ما يمكن فقط الإشارة إليه". والظاهر أن الرسالة لا تخفي ميولاتها القطعية، فهي تقترح حلولا جازمة لكثير من المشاكل الفلسفية، فضلا عن كونها تصدر عن تقطيعات حاسمة ونهائية: فهي لا تجد بدا من الإقرار بوجود فضاء منطقي يحتوي كل ما في العالم؛ ولا ترى مانعا من تأكيد حدود اللغة. لذلك يقول فيتجنشتين" "إن المنطق يملأ العالم: فحدود العالم هي أيضا حدوده. ونتيجة لذلك لا نستطيع أن نقول في المنطق: هناك هذا الشيء أو ذاك في العالم وليس ذاك، لأن قول هذا يفترض فعلا أننا نقصي بعض الإمكانيات، وهو ما لا يجوز لأن على المنطق، في هذه الحالة، أن يتجاوز حدود العالم إذا أمكن له أيضا أن يحيط بهذه الحدود من الجهة الأخرى. والحال أن ما لا نستطيع التفكير فيه، لا نملك القدرة على التفكير فيه؛ وبالتالي لا نستطيع قول ما لا نستطيع التفكير فيه"(55). وحيث إن "المنطق يملأ العالم"، فإن جواز التفكير "فيما وراء المنطق" يظل مستبعدا تماما لأن ما لا نستطيع التفكير فيه لا يدخل البتة في دائرة ما يمكن التكلم عنه.
        لكننا حالما ننتقل مع فيتجنشتين إلى المباحث الفلسفية، سيتضح أن هذا الإطار المنطقي الصارم بدأ يتضاءل؛ إذ كيفما كان الحال فإن مقاربة المباحث لقضايا الفلسفة تتسم بكثير من المرونة وباللاوثوقية قياسا بالرسالة؛ فضلا عن ذلك فإن تناولها لهذه القضايا من حيث هي مستويات لألاعيب اللغة، كفيل بتخليصها من التقطيعات الجازمة التي عمدت إليها الرسالة. فلقد فطن فيتجنشتين في فلسفته الأخيرة إلى تنوع وتعقد قواعد الاستعمال الطبيعي للغة. وليس من المبالغة في شيء القول إن اعتناءه بتحديد كيفيات ومقامات تأدية بعض العبارات الطبيعية لوظيفتها الدلالية(56)، يسير في نفس الاتجاه الذي يرمي إليه حين يتعقب بعض الصيغ المألوفة في خطاب الفلاسفة، مادام الهدف من هذا كله هوإبراز تلوينات اللغة الطبيعية.
        وعلى هذا، فإن كيفية تعامل الرسالة مع اللغة الطبيعية تخالف كيفية تعامل المباحث معها. فعلى الرغم من أن الرسالة لا تسقط من حسابها تعقد التوفيقات المضمرة التي يستلزمها فهم اللغة المألوفة(57)، فإنها لم تكن لتخفي رغبتها في المضي وراء اللغة الطبيعية إما لتفادي "الالتباسات الأساسية" التي توقع فيها الفلسفة مخاطبيها وإما لاقتراح "لغة رمزية" تستجيب للنحو المنطقي(58). أما في المباحث فإن التعامل مع اللغة الطبيعية يتخذ وضعا آخر، إذ يحرص  فيتجنشتين على ألا تمس الفلسفة "الاستعمال الفعلي للغة" وأن تقتصر فقط على وصفها بترك كل الأشياء كما هي دون التدخل فيها انسجاما مع تصور عام يرى أن الفلسفة لا تملك القدرة على تأسيس هذه اللغة(59).
        ولا تقف المباحث عند هذا الحد، فهي تريد أن تبين بأن اللغة الطبيعية تمثل معيارا حقيقيا لكل الأشكال التعبيرية الأخرى التي تروم الاتصاف بمواصفات اللغة، لأن نعت هذه الأشكال بخصائص اللغة إنما يتم على سبيل المشابهة أو المقاربة بلغتنا العادية(60). وقد لا نعدم الصواب إذا نحن سلمنا بأن هذه الفكرة حاضرة بقوة سواء في فلسفته الانتقالية أو في فلسفته الأخيرة. ففي إحدى الملحوظات التي جمعها فايزمان ضمن كتاب لودفيج فيتجنشتين وحلقة فيينا، يدافع فيتجنشتين عن اللغة الطبيعية، ولا يرى من سبيل لذلك سوى بإعلانها اللغة الوحيدة: "أظن أننا لا نملك في الجوهر سوى لغة واحدة، إنها اللغة العادية. إننا لسنا بحاجة إلى خلق لغة جديدة أو بناء نظام رمزي، فاللغة اليومية هي قبل كل شيء اللغة بصيغة المفرد شريطة تخليصها من مظاهر الغموض التي تتخللها. والواقع أن لغتنا تتوفر مسبقا على نظام، شريطة أن تكون لنا أفكار واضحة بشأن ما ترمز إليه"(61).
        7- من الحساب والقواعد إلى ألاعيب اللغة: نحو مدلول جديد للنحو:
        إن ما يثير الانتباه هو أن فيتجنشتين يستخدم كلمة "نحو" بمعنى واسع جدا بحيث تصبح "القواعد النحوية" مرادفة لكل المستويات التي تدخل في استعمال اللغة، بما في ذلك المستويات الصورية وغير الصورية. لكن إذ شئنا تضييق هذا الاستخدام قليلا، فنحن ملزمون بالقول إن النحو، في الاصطلاح الذي تعطيه إياه أعمال فيتجنشتين التي تلت الرسالة، هو هذا الحقل الذي يصف الرباط القائم بين اللغة والواقع. وبفعل هذا فإن "القواعد النحوية" تتخذ معنى دلاليا مادامت تختص بوصف العلاقة التي تجمع بين اللغة والواقع.
        لهذا، قد لا نجد حرجا في القول إن النحو، في التحديد الذي يعطيه إياه فيتجنشتين، يخص الدلاليات أكثر مما يخص البناء الداخلي للغة، لاعتبار أساسي هو أنه لا يتولى فحص القواعد التي تهم "ما هو داخل اللسان" بقدر ما يتولى فحص قواعد لعب اللغة التي تهم "ما هو خارج اللسان". ويبدو أن هذا ما ترمي إليه هذه الشذرة التي يقول فيها فيتجنشتين: "إن النحو لا يتكلم عن الكيفية التي ينبغي أن تبنى بها اللغة لكي تملأ وظيفتها وتؤثر بهذه الكيفية أو تلك على الناس. إنه يكتفي بوصف استعمال الدلائل ولا يعمد إلى شرحها بأية كيفية من الكيفيات"(62).
        صحيح أن هذه الشذرة لا تفصح صراحة عن التحديد الدلالي، لكنها كافية في حد ذاتها للإيحاء بإحدى الأفكار المحورية التي تدور حولها المباحث: نعني المطابقة التي أقامها فيتجنشتين بين الدلالة والاستعمال. وهي فضلا عن هذا، تشير بشكل صريح إلى استبعاد التصور الذي يطلق النحو على الكيفية التي تبنى بها اللغة "داخليا"، إذ أن مقصد النحو هو وصف الرباط الذي يجمع بين اللغة وبين مجال "خارج-لساني". ونحن نرى بدورنا أن هذا المعنى الخاص الذي يسقطه فيتجنشتين على النحو هو الذي تفي به الشذرة التالية المتقطفة من كتاب الجدادات Zettel: "ينبغي الكشف عن الانسجام بين الفكر والواقع ضمن نحو اللغة كما هو الشأن بالنسبة لكل ما هو ميتافيزيقي"(63).
        ولم يقتصر فيتجنشتين على اللجوء إلى لفظ "النحو" بل تعداه إلى استعمال مفهوم "الحساب" في سياق ذي علاقة بالنحو. فبالرغم من المحيط الرياضي الذي يستمد منه هذا المفهوم معناه، لم يجد فيتجنشتين أي حرج في إقحامه ضمن مجال اللغة منذ ما يتعارف على تسميته بفلسفته الانتقالية؛ إذ بما أن التركيب (النحو) يشمل نسق قواعد اللعب، فإن مفهوم الحساب يستمد صلاحيته من هذا التحديد ذاته اعتبارا لأنه ليس في النهاية سوى نسق القواعد التي تنظم ألاعيب اللغة.
        بهذا المعنى يستخدم مفهوم الحساب في كتابه النحو الفلسفي: "إن الشخص الذي يؤول أو يفهم دليلا ما بهذا المعنى أو ذاك، ينجز عملية داخل الحساب (كعملية الجمع الحسابية). إنه يقوم تقريبا بنفس الشيء عندما يعمل على التعبير عن تأويله"(64). وإذا وضعنا في الحسبان أن النحو عند فيتجنشتين يخص الدلاليات مادام يصف الرباط القائم بين اللغة والواقع، فإن علاقة الحساب بالنحو تستقيم وتتضح حالما نفهم أن الحساب هو العنصر الذي يربط بين الفكر (اللغة) والواقع الخارجي؛ كما نفهم في الآن نفسه لماذا اختار بالضبط تناول التفكير كحساب(65). وهذا هو بالتحديد ما تقوله فقرة من نفس الكتاب: "إن حساب الفكر يرتبط بالواقع خارج الفكر"(66).
        صحيح أن فيتجنشتين سيقلص لاحقا من استعماله لمفهوم الحساب في الكتابات التي مثلت فلسفته الأخيرة دون أن يتخلى عنه نهائيا، صحيح أيضا أن هذا التقليص سيكون لصالح مفهوم "ألاعيب اللغة" بعد أن أضحى هذا الأخير المفهوم المحوري الذي يجسد علاقة اللغة بالواقع، إلا أن هذا لم يمنع من وجود نصوص استخدم فيها فيتجنشتين مفهوم الحساب بمعنى قريب جدا من المعنى الذي أعطاه لألاعيب اللغة. وإذا كان هذا يشهد على شيء فإنما يشهد في الواقع على التقارب الذي أقامه بين الحساب وبين اللعب خصوصا في فلسفته الانتقالية. فهو حين يختار النظر لدلالة كلمة ما من زاوية تجعل هذه الدلالة مماثلة للدور الذي تلعبه الكلمة في "حساب اللغة"، ما يلبث أن يقارن الكلمة بقطعة من قطع لعبة الشطرنج لتأكيد التقارب الحاصل بين الحساب وألاعيب اللغة.
        لكن من حقنا أن نتساءل هنا: ألا يتعارض مفهوم "الحساب" مع "ألاعيب اللغة؟ فالواقع أن لهذا التساؤل مسوغاته، خصوصا إذا ما وضعنا في الاعتبار أن أي "حساب" إلا ويقتضي نوعا من القواعد؛ في حين نعلم أن فلسفة فيتجنشتين الثانية ستجهد في نفي القواعد المتميزة عن مجال ألاعيب اللغة، وستذهب أبعد من هذا من خلال التأكيد على أن ألاعيب اللغة سابقة ومتقدمة على قواعدها. ورغم هذا فإن فيتجنشتين لم يكن يرى بأسا في الجمع بين الحساب وألاعيب اللغة. ومهما كان الأمر، فإن الظاهر أن المباحث لم تتردد عن استعمال هذين المفهومين جنبا إلى جنب؛ وليس من المستبعد على الإطلاق أن تكون قد قصرت استعمالها للحساب على المجال الذي يخص "القواعد الثابتة" أو "القواعد المحددة" دون غيرها من المجالات الأخرى(67).
        غير أن استيعاب هذا الفرق بين موقفي فيتجنشتين يتطلب، مرة أخرى، وضعه في سياق التعديلات التي أجراها على أفكاره الأخيرة، إذ لا ينبغي أن يفوتنا أنه قد أولى في فلسفته الانتقالية دورا مركزيا للقواعد؛ في حين اتجه في فلسفته الأخيرة إلى البحث للدلاليات عن أسس في ألاعيب اللغة. ولئن جاء حديثه عن "القواعد" حديثا صريحا حتى في مواقفه الأخيرة، فإن إقحامه لها بات يتم داخل ألاعيب اللغة بعد أن أضحت هذه الأخيرة مجال العلاقات الإسقاطية التي تتم بين اللغة والواقع.
        والحال، أن الأمر لا ينطوي هنا على أي تناقض. فإذا أخذنا بالتصور الذي يأخذ به جاكو وميريل هنتيكا، لوجدنا أن فيتجنشتين قد "تطور" من الموقف الذي يعد "القواعد" بمثابة وسائط بين اللغة والعالم إلى موقف ثان يعتبر ألاعيب اللغة هي ذاتها هاته الوسائط. وهما يريان أن بعض مقاطع المباحث تسجل فعلا نقطة التحول النهائي في هذا "الطور" الذي مكن فيتجنشتين من تحقيق التحول من فلسفته الانتقالية إلى فلسفته الأخيرة، أي من تصور يمنح القواعد دور الوسائط إلى تصور آخر ينيط فيه ألاعيب اللغة بمهمة لعب هذا الدور.
        إذا سلمنا إذن بهذا التصور الذي يتبناه جاكو وميريل هنتيكا، فسيسهل علينا بعدئذ استساغة هذه المكانة المتميزة التي تحظى بها ألاعيب اللغة في المباحث: فلقد شرع فيتجنشتين، في رأيهما، بادئ الأمر في ربط الأفعال والأنشطة اللالغوية بدائرة ألاعيب اللغة. وكان استعماله آنذاك لهذا المفهوم غير واضح بما فيه الكفاية؛ فهو حين تكلم لأول مرة عن ألاعيب اللغة. كان غرضه يقتصر على توجيه الانتباه إلى الدور الذي تلعبه القواعد في استعمال اللغة. أما دور ألاعيب اللغة فقد كان ضعيفا وثانويا مقارنة بالدور الذي كان يعطيه للقواعد. والظاهر أن فيتجنشتين، رغم استعماله لمفهوم "اللعب" لم يكن يدرس في فلسفته الانتقالية قواعد اللعب سوى لغرض استثمارها في دراسة القواعد النحوية. فهي لم تكن تمثل سوى نماذج مبسطة مشيدة على نحو اصطناعي لكي تقارن مع اللغات الطبيعية.
        أما بوادر التحول الهائل الذي عرفه موقفه، فلن يتحقق بادئ الأمر سوى في كتابه الدفتر الأسمر، إذ أنه لأول مرة ستصبح ألاعيب اللغة مرتبطة بتعلم اللغة؛ وهو تحول على قدر كبير من الأهمية لأنه يشهد على الصياغة النهائية التي ستأخذها هذه المسألة في فلسفته الأخيرة. كما أن ألاعيب اللغة لن تؤخذ بعد الآن كمجرد نماذج لغرض مقارنتها باللغات الطبيعية، بل على العكس ستؤخذ كأنساق مستقلة بذاتها. وهذا بدوره لن يغدو ممكنا إلا بعد أن تخلى فيتجنشتين عن النظرية الإشارية، التي حكمت فهمه السابق للغة، لصالح تصور آخر صارت فيه ألاعيب اللغة تقوم بتشكيل العلاقة الدلالية بين الكلمات والواقع(68).
        ومن الجدير بالانتباه أن تناوله سواء للقواعد أو لألاعيب اللغة أصبح يجري في الغالب داخل سياق تعلم اللغة. فقد لا نستغرب إن وجدناه يلح باستمرار على البعد التعلمي. فهو يقول: "لا يمكن لي أن أصف كيف يجب استعمال قاعدة ما بصفة عامة سوى بتعليمك وترويضك على استعمال قاعدة معينة"(69). والأصل في هذه النتيجة هو أن فيتجنشتين يجهد في بيان عدم وجود قواعد مسبقة لاستعمال القواعد النحوية. فليس هناك من قاعدة محددة لاستعمال هذه القواعد سوى التعلم. وهذا في تقريرنا سيكون واحدا من بين الأسباب التي دفعته إلى منح ألاعيب اللغة أسبقية منطقية على القواعد، بدليل أن من الممكن تعلم اللغة دون معرفة بقواعدها؛ إذ من "الممكن أن نتخيل بأن فردا ما قد تعلم اللعب دون أن يسبق له تعلم أو صياغة القواعد"(70).
        ومن المعلوم أن المباحث لم تحصر قط عدد ألاعيب اللغة بل اعتبرتها، على العكس، من التنوع والتباين بحيث يستحيل إحصاء كل أنواعها أو اقتراح نمذجة تامة ونهائية لها. فضلا عن هذا، فقد أفسحت المجال واسعا أمام "اللعب اللغوي البدائي" معتبرة إياه ضروريا في مجال تعلم اللغة(71). كما قبلت بكل أنواع "اللعب اللغوي اليومي" وجعلته ذا قيمة تعليمية. وقد يكون من المفيد أن نشير هنا إلى أن هذه الإشكالية، التي تعرض لقواعد النحو وألاعيب اللغة، لا تستقيم إلا بوجود أطر لسانية-ثقافية وليدة التربية والمواضعة.
        فعلا، يقيم فيتجنشتين ترابطا قويا بين اللعب وبين القواعد التحكمية؛ ويعتبر هذا الترابط مظهرا للحرية التي يختص بها استعمال اللغة. وإلى هذا يذهب حين يقارن بين قواعد النحو وقواعد المطبخ حين يقول: "لماذا لا أسمي قواعد المطبخ قواعد تحكمية، ولماذا أنا مدعو إلى تسمية قواعد النحو قواعد تحكمية؟ السبب هو أن "المطبخ" محدد بالغايات التي ينشدها، في حين أن "الكلام" غير محدد بذلك، لهذا فإن استعمال اللغة مستقل بمعنى ما من المعاني، وهو بالضبط المعنى الذي لا نجده في المطلخ أو الغسيل. فأنت حين تطبخ بناء على قواعد أخرى غير القواعد الصحيحة، تنجز طبخا سيئا؛ لكنك حين تلعب وفق قواعد أخرى غير قواعد الشطرنج، تلعب لعبا آخر؛ وحين تتكلم بناء على قواعد نحوية أخرى غير هذه القواعد أو تلك، لا تتكلم مع ذلك بشكل خاطئ وإنما تتكلم عن شيء آخر"(72).
        لا مجال للخلط إذن بين القواعد التحكمية والقواعد الأخرى التي تنتفي فيها هذه الخاصية. فالتقابل الذي يقيمه فيتجنشتين هنا تقابل رئيسي، إذ على ضوئه يبدو الفرق بين الحالات التي يكون فيها التقيد المسبق بقواعد محددة شأنا ضروريا لوجود الفعل المنشود، وبين الحالات التي يكون التصرف في القواعد أو عدم الالتزام بعرفيتها شأنا مولدا لألعاب أخرى. في الحالات الأولى (أي في مثال الطبخ) يكون النشاط المنجز مطالبا بالتطابق مع القاعدة. أما في الحالات الثانية (أي في مثال اللغة ولعبة الشطرنج) فإن النشاط المنجز لا يشترط فيه بالضرورة التطابق مع قاعدة موضوعة سلفا لأن التحرر من القواعد لا يعني، في هذه الحالة، فساد القول أو خطأ اللعب بقدر ما يعني أننا ها هنا أمام أوضاع ومقامات أخرى.
والحال أن الناظر في هذه الدعوى التي يذهب إليها فيتجنشتين، قد لا يخفى عليه وجه الشبه بينها وبين دعوى مماثلة سيذهب إليها سورل في كتابه أفعال الكلام. ولئن كنا نقر مسبقا بأن دعوى سورل توضع تحديدا في سياق آخر غير سياق فيتجنشتين، فإننا لا نرى في المقابل بدا من الاعتراف بأن مقصدها العام ينشأ على نفس الإشكال الذي بلور فيه فيتجنشتين هذه القضية، سيما أن سورل ينطلق من افتراض مفاده أن تكلم لغة ما معناه إنجاز أفعال موافقة لقواعد معينة.
        وعلى الإجمال، فإن النقطة التي نعنيها بشكل خاص تتركز على التمييز الذي وضعه سورل بين "القواعد التكوينية" و"القواعد المعيارية". إنه تمييز هام في تقديره بالرغم من أن إيحاءاته الكانطية قد لا تخفى على أحد(73). والجدير بالذكر هاهنا أن أهميته تعود بالضبط إلى تمكنه من التفريق بين نوعين من القواعد: فالقواعد المعيارية هي تلك التي تتولى تنظيم نشاط يكون وجوده مستقلا من الناحية المنطقية عن القواعد التي تسيره؛ في حين أن القواعد التكوينية هي تلك التي تتولى تنظيم نشاط يكون وجوده تابعا من الناحية المنطقية للقواعد التي تضبط سيره. فضلا عن هذا، فإن سورل يرى بأن خلق القواعد التكوينية بمقدوره توليد أشكال جديدة من السلوك اللساني(74). فإذا عدنا إلى التمييز السابق الذي وضعه فيتجنشتين للتفريق بين القواعد التحكمية والقواعد غير التحكمية، وجدنا أن "القواعد المعيارية" عند سورل توافق، إلى حد كبير، القواعد التحكمية عند فيتجنشتين؛ في حين توافق "القواعد التكوينية" ما سماه فيتجنشتين "القواعد غير التحكمية"(75).
        هذه إذن لمحة وجيزة عن إحدى الجوانب التي استأثرت باهتمام "فيتجنشتين الأخير". والواقع أننا لن نتوقف في تكوين صورة شاملة عن فلسفته الثانية إذا أسقطنا من حسابنا جانبا آخر ما انفك فيتجنشتين يوليه عناية ملحوظة: نعني مسألة "اللغة الخصوصية" التي تعد بدورها واحدة من نقط الخلاف الكبيرة بين شراح فيتجنشتين. فهي، من دون ريب، من بين المسائل الرئيسية التي تعكس توجهاته الفلسفية الأخيرة؛ ولذلك فقد لا نكون مغرضين في تأويلنا إن نحن وضعناها في نفس مرتبة نظرية ألاعيب اللغة.
        8- العالم الذهبي ومسألة اللغة الخصوصية:
        ما من شك في أن النقد الذي وجهه فيتجنشتين للتصورات الجاهزة التي حملها الفلاسفة على اللغة، كان في مجمله نقدا يهدف إلى تعرية الخلفيات "الميتافيزيقية" التي حددت منطلقات الفلسفة. وبالرغم من أن استخدامه لمفهوم "الميتافيزيقا" يحتاج بدوره إلى وقفة طويلة لتعيين مجالاته والتعريف بحدوده، فإن المقصود بهذا النقد ليس بالضرورة حمل الفلاسفة على الامتثال لدعاوى الاتجاه الوضعي، ولا الدفع بهم إلى الأخذ بالأطروحات "التجريبية" بديلا لأطروحاتهم المثالية كما قد نظن للوهلة الأولى. إن المقصود به هو بيان أن القضايا الميتافيزيقية الكبرى التي خاضت فيها الفلسفة هي في جوهرها قضايا لغوية، أو لنقل: إنها سوء فهم لكيفيات صياغة اللغة.
        قد يصعب علينا هنا حصر جميع المظاهر التي مثلت بحق نقد فيتجنشتين للميتافيزيقا لأن المقام لا يتسع للقيام بذلك، لكن هذا لا يمنعنا من الإشارة إلى مظهر واحد من هذا النقد: نقصد نقد فيتجنشتين للقضايا اللغوية التي تطرح بدلالات ذهنية، وسعيه في المقابل إلى فضح مقتضياتها الميتافيزيقية. فمن المعلوم أنه قد تصدى لكثير من الأطروحات التي تولت تحديد "الوعي" كما لو أنه نشاط "روحي" "داخلي".
        وهذا ما دعا جاك بوفريس إلى تخصيص كتابه أسطورة الدواخل لإيضاح حيثيات نقد فيتجنشتين للنزعة الذهنية-السيكولوجية. فهو يرى فيه نموذجا للفيلسوف الذي يقف ضد فلسفة الوعي وضد فكرة الكوجيطو، واضعا إياه على الطرف النقيض من ديكارت وهوسرل. لذلك يقول: "إن فلسفة فيتجنشتين هي بلا ريب مثال نموذجي لما يمكن تسميته فلسفة المفهوم [أو التصور] في تعارض مع فلسفة الوعي"(76).
        وكيفما كان الحال، فسواء أشاطرنا هذا الرأي الذي يذهب إليه بوفريس أو اعتبرناه، في القسم العظيم منه، امتدادا لنقد الكوجيطو الذي جعلت منه الفلسفة الفرنسية محورا أساسيا أثناء هيمنة الاتجاه البنيوي وبعد خفوته(77)، سواء أقلنا إذن بهذا الرأي أو ذاك فإننا لا نملك إلا تأكيد استئثار مسألة "النزوع الذهني" باهتمام فيتجنشتين.
        لسنا بحاجة إلى التذكير بأن فلسفته الثانية ما انفكت تفسر قضايا الميتافيزيقا بهذا الاعتقاد الذي ينصب خلف ما هو ظاهر فعالية "داخلية" و"مختفية". فليس من العسير أن نرى في نقده لهذا الاعتقاد مؤشرا واضحا لنقد الأسس "الذهنية" التي صيغت بها مشاكل اللغة ومعها مشاكل الفلسفة. ومن هذا المنظور قد يجوز اعتباره واحدا من أهم الفلاسفة المعاصرين الذين أعادوا مساءلة الأسس المعرفية التقليدية، لكن من منحى مغاير كما سنرى؛ إذ بالرغم من أن هذه المساءلة لم تكن نسقية بنفس القدر الذي لم تكن فيه أيضا خالية تماما من بقايا طروحات تقليدية، فإن فيتجنشتين قد توصل إلى زعزعة كثير من البداهات الفلسفية، وعلى رأسها البداهة التي تجعل المعرفة ضربا من "الرؤية الداخلية" أو "الفحص الذهني" لرصد وقعها على تصورنا للغة. ولعل الكثير من الشذرات التي تكون كتابه في اليقين تنحو هذا المنحى؛ فمن خلال تقريبه بين المعرفة والرؤية يرمي فيتجنشتين إلى نقد هذا التصور التقليدي الذي يجعل من صورة المعرفة استبطانا أو "إدراكا لسيرورة خارجية انطلاقا من أشعة مضيئة تسقطها في عمق العين وداخل الوعي"(78).
        وإذا كان يخصص، في نفس الكتاب، حيزا كبيرا لفحص القضايا التي هي على شاكلة "أنا أعرف"، فإننا لا نلبث أن ندرك بأن هاجس فيتجنشتين لغوي بالدرجة الأولى: يتأكد ذلك حين نتبين حرصه على جذب هذه القضايا إلى دائرة ألاعيب اللغة(79). وهذا معناه أن مسألة اليقين تجد عنده سبيلها إلى الحل في منطق اللغة وليس في ما نعتقد أنه يقيني. إنها قضية لغوية وليست سيكولوجية، بدليل أن الحسم فيها يتم على مستوى ألاعيب اللغة، إذ بمقدورنا أن نضيف إلى هذا أن طرح فيتجنشتين لمسألة اليقين يخالف، في العمق، المنظور الذي طرحته بها الفلسفات التقليدية: فاليقين عنده ليس حسا داخليا تفرضه بداهة عقلية كما هو الشأن مع ديكارت بقدر ما هو ضرورة نحوية تمليها قواعد وألاعيب اللغة. وقد لا نجانب الصواب إن نحن ذهبنا إلى حد القول إن طرح فيتجنشتين لقضايا اليقين (التي هي من صنف العبارة "أنا أعرف") ليس طرحا إيستمولوجيا وإنما هو طرح نحوي بالمعنى الخاص الذي يعطيه لكلمة "نحو".
        وعلى هذا الأساس، فإن الاحتراز في تقديم التأويل المناسب لأفكار فيتجنشتين يملي علينا عدم المجازفة في إطلاق الأحكام جزافا: فعندما تتطرق المباحث إلى "تجارب معيشية داخلية" كالأحاسيس مثلا، لم يكن هدف فيتجنشتين هو نفيها أو إبطال وجودها. وبنفس القدر فإن إثارته لموضوع النشاط الذهني لم يكن يرمي إلى إبطال وجود حياة ذهنية أو تجربة معيشية داخلية، ذلك لأن الإشكال نفسه يفقد قيمته حالما نخرجه من سياقه النحوي-المنطقي الذي اختاره له فيتجنشتين. وهذا أمر يستوجب في تقديرنا احتياطا مضاعفا كلما فرضت الضرورة المقارنة بين ديكارت وفيتجنشتين، فليس التعارض بين الإثنين بالبساطة التي قد نظن.
        وحتى تستقيم هذه الفكرة في ذهننا، يلزم التذكير بأن هذا النقاش يصب في مسألة واسعة تخص "اللغة العمومية" و"اللغة الخصوصية"، إذ من الواضح أن مواقف فيتجنشتين الأخيرة اتجهت إلى تدعيم الطابع العمومي للغة تحت ستار خوضه في منطق الأحاسيس الخصوصية. ولا يخفى في هذا الباب أن تأكيده على مادية اللغة كان ينحو منحى تعزيز طبيعتها العمومية من زاوية دلالية (نحوية) وليس من زاوية إيستمولوجية.
        لهذا، فليس من الغرابة في شيء أن تفرد المباحث حيزا واسعا لدحض "الاستعمال الخصوصي" للغة في إطار ما يشتهر على تسميته، لدى المتخصصين في فيتجنشتين، بمسألة "اللغة الخصوصية". فمن المعلوم أن هذه المسألة قد استولت على اهتمامه في فلسفته الثانية، وجهد في بيان صعوبة تحقيقها اعتبارا لأن كل لغة من هذا الصنف (أي من الصنف الذي يروم التعبير عن تجارب داخلية-ذاتية) لن تتوصل قط إلى إفهام الطرف الآخر مواميها، بالنظر لأن كلماتها لن تكون معروفة سوى من قبل الشخص الذي يتكلمها(80).
        غني عن البيان هنا أن ما يشغل فيتجنشتين لا يمس إطلاقا واقع هذه الأحاسيس الخصوصية؛ فهو لا يهتم بهذه التجارب الخصوصية في حد ذاتها وإنما بأبعادها المنطقية-الدلالية. وعلى الإجمال، فإن ما يرمي إليه لا يتمثل إطلاقا في نفي العالم الخاص الذي تنطوي عليه هذه التجارب ولا أيضا في إقصاء الحياة الذهنية كما قد يتهيأ لنا للوهلة الأولى؛ إذ أن غاية ما يرمي إليه هو التأكيد على ضرورة وجود إطار لغوي عمومي كخلفية مرجعية لتبليغ أية تجربة خصوصية. والظاهر أن هذا ما يقصده حين يتعمد الحديث عن "نحو كلمة "ألم""(81) وليس عن الإحساس بالألم في حد ذاته. فهو، كما قلنا، لا ينفي وجود "التجربة الخصوصية" بقدر ما ينفي استحالة تبليغها جونما واسطة إطار لغوي عمومي.
        إن هذا يرجع بنا مرة أخرى إلى الإشكال النحوي الذي يؤطر قضايا فيتجنشتين. وهو إشكال ينبغي أن نضعه جوما نصب أعيننا حتى نتبين بشكل واضح سياق ومقام معظم هذه القضايا التي قد يرى فيها القارئ المتسرع مسائل مفصولة عن النحو وعن ألاعيب اللغة. بيد أن الأمر غير هذا، ففيتجنشتين -كما رأينا- لا ينتقد الطابع الخصوصي لما تمثله التجارب الخصوصية وإنما ينتقد الطابع الخصوصي لعلاقاتها الدلالية. لهذا فهو لا يرى مانعا من الإقرار بوجود الإحساسات الداخلية في الوقت نفسه الذي يرى من الاستحالة الحديث عن لغة خصوصية للإحساسات الداخلية.
        وهكذا، فمن الإغراض الحكم جملة وتفصيلا "بلاديكارتية فيتجنشتين" في شأن مسألة "التجارب الخصوصية". والشاهد عندنا هو أن "فيتجنشتين الثاني" لا يضع الحياة الذهنية موضع تساؤل أو شك لأن دافعه ليس إيستمولوجيا بل نحويا. ويكون ميريل هنتيكا وجاكو هنتيكا على حق حين يعلنان بأن "ما ينتقده فيتجنشتين هنا هو دلاليات ديكارت وليس ميتافيزيقاه"(82). فالتجارب الخصوصية هي إحساسات واقعية في نظر فيتجنشتين، ولا سبيل بالتالي لإقصائها؛ لكن تبليغها بواسطة اللغة يقتضي بالضرورة وجود خلفية لغوية ذات طابع عمومي. إن فيتجنشتين لا ينتقد إذن الأساس الميتافيزيقي لهذه التجارب ما دام يعترف بها كحياة ذهنية. إنه لا يشك في استعمالها "الخصوصي" من طرف الأفراد، بل إن ما يشك فيه هو إمكانية تبليغها بواسطة لغة خصوصية لأن في الأمر استحالة دلالية لا قدرة لنا على رفعها إلا بوضع إطار عمومي للغة. وهذا تأكيد على أن معنى التجارب الخصوصية مقرون بوجود ألاعيب لغوية عمومية.
        وعليه، فإنه يتعين على المتكلم الانطلاق مسبقا من إطار لغوي عمومي لكي يتوصل إلى ترجمة إحساساته الداخلية ضمن عبارات مفهومية من قبل الآخرين، أي أن تبليغ التجارب الخصوصية (كالإحساس بألم الأسنان مثلا) يستوجب وجود "إطار لغوي مترابط بين الأشخاص". لكن هذا، في تقديرنا، لا يؤدي بالضرورة إلى القطع برفض فيتجنشتين "لأنا أفكر خالص" مثلما يدعونا بوفريس إلى استنتاج ذلك لأن سياق اللغة الخصوصية واللغة العمومية لا يسير عنده في اتجاه طرح إيبستمولوجي وإنما في اتجاه طرح نحوي. وبهذا، فإن من الصعوبة الإقرار بمعارضة فيتجنشتين للكوجيطو الديكارتي من منطلق رفضه فقط للغة الخصوصية.
        خاتمة:
        يتضح، بناء على ما تقدم، أن تفكير فيتجنشتين في القضايا الفلسفية الكبرى كان يكتسي في الغالب طابعا نحويا. فإذا تذكرنا بأن النحو عنده هو اللفظ المرادف للدلاليات، سهل علينا حينئذ معرفة الأسباب التي جعلته يتناول "القضايا الميتافيزيقية" باعتبارها مخلة بقواعد التركيب المنطقي للغة. ولسنا نبالغ إن نحن سلمنا بأن نقده للميتافيزيقا قد تم عنده من هذه الزاوية النحوية؛ فحين نقر بهذه الملاحظة سيكون بوسعنا أن نفهم آنذاك بأن طرح فيتجنشتين للقضايا الميتافيزيقية باعتبارها "عديمة المعنى" لا يقاس بافتقادها فعلا للمعنى كما قد يتبادر إلى ذهننا للوهلة الأولى وإنما يقاس بعدم احترامها لمنطق اللغة، أي بخرقها لحدود اللغة وإنجازها لعبارات ذات معنى لكنها "لا تدل" على أي شيء.
        وإذا صح أن الرسالة لا تتردد عن نعت القضايا الفلسفية (الميتافيزيقية) بأنها "عديمة المعنى"، فإن هذا لا يسقط عنها المعنى فعليا. فما يرمي إليه فيتجنشتين هو بيان أن الميتافيزيقا تعمد إلى ألفاظ ومفاهيم في مجالات مخلة بمنطق اللغة لا أنها تنتج قضايا بلا معنى وإنما لأنها تستخدم ألفاظا دونما انتباه إلى خلوها من الدلالة. ولنمعن النظر قليلا في تقوله الرسالة: "إن أغلب القضايا والأسئلة التي كتبت عن الأشياء الفلسفية ليست خاطئة وإنما هي عديمة المعنى. ولهذا فنحن لا نستطيع على الإطلاق الجواب عن أسئلة من هذا النوع وإنما نستطيع فقط الإقرار بخلوها من المعنى. إن أغلب أسئلة وقضايا الفلاسفة تعود إلى عدم فهمنا لمنطق لغتنا. (إنها من نفس صنف السؤال الذي يتساءل عما إذا كان الخير مماثلا تقريبا مثلما هو الحال مع الجميل). وليس عجبا أن أعمق المشاكل ليست البتة مشاكل على الإجمال"(83).
        والحق أن نعت الرسالة للقضايا الميتافيزيقية بالخلو من المعنى، لا ينبغي أن يحجب عنا ما هو أبعد من منطوق هذا التصريح: فهي لا تقصد هنا غياب المعنى بقدر ما تقصد استعمالها للكلمات بمعنى آخر غير المعنى الذي نستطيع فيه التأكد من المطابقة بين اللفظ والواقعة. ومفهوم المماثل الذي يلجأ إليه فيتجنشتين، هو واحد من بين الأمثلة العديدة التي تعمد إليها الفلسفة في رأيه لاستعمال اللفظ في أوضاع مخلة بقواعد الدلالة، أي في أوضاع لا تناسب نحو اللغة. والشاهد عندنا أن فيتجنشتين نفسه سيعود لاحقا لهذا المثال لتوضيح الفكرة وربما لتعديل مدلول الملاحظة التي أبداها سابقا في الرسالة. ذلك ما توحي به شذرة من كتابه ملاحظات فلسفية: "في جوابنا عن التساؤل حول ما إذا كان الفلاسفة قد نطقوا دائما وحتى الآن باللامعنى، نستطيع أن نقدم الجواب التالي: كلا، إنهم لم يفعلوا ذلك؛ فكل ما في الأمر أنهم لم يلاحظوا أنهم يستعملون نفس الكلمة بدلالات مختلفة جدا. وفي هذا المعنى فإنه ليس بالضرورة من قبيل اللامعنى أن يقال عن شيء ما بأنه مماثل بنفس الكيفية لشيء آخر؛ لأن من يقول ذلك عن اقتناع يقصد في نفس اللحظة شيئا ما بكلمة "مماثل" (ربما يقصد أنهما "متساويان في الكبر")، لكنه لا يعرف أنه يستعمل هنا الكلمة بمعنى آخر غير المعنى الذي يستعمل في حالة 2+2=4"(84).
        لا يضيرنا هنا الاعتراض على هذا الاستنتاج بأن يقال لنا: لكن هذا ذاته ما انتهت إليه الوضعية المنطقية مع شليك وكارناب، فقد بينا فيما سبق أن مآل النحو لدى فيتجنشتين لم يكن هو التمييز بين "القضايا الحقيقية" و"أشباه القضايا" و�نما هو التوكيد على تعدد أنواع ألاعيب اللغة. ولا شك أن هذا التوجه الذي نهجه فيتجنشتين منذ مرحلته الانتقالية، يخالف في العمق الأطروحات الكبرى التي قام عليها تصور الوضعية المنطقية للغة. فبمقدورنا، في هذه الحالة، أن نقول إن نظرية ألاعيب اللغة لم تشكل فحسب أهم وأحدث تصورات "فيتجنشتين الثاني" للغة بل هي أيضا من أقوى النظريات التي تعبر عن معاداته لفلسفة اللغة الوضعية.
        وعلى هذا، يصح القول بأن فيتجنشتين قد شرح في بلورة تصوره لألاعيب اللغة منذ اللحظات التي استقام في ذهنه المعنى الخاص الذي أصبح يحمله على النحو، نعني هنا النحو كمجال لدلاليات وليس كمجال للتركيب الداخلي الطي تنبني عليه العبارات.
        الهوامش
1) Ludwig Wittgenstein ; philosophische Untersuchungen 203, Ludwig Wittgenstein Werkousgabe Band I, Frankfurt am main, Suhrkam 1990.
            - Investigations philosophiques, 203, trad. Fran�aise : P.Klossowski, ed. Gallimard/coll. Tel, 1961, (�dit� avec : Tractatus Logico-philosophicus).
2) Wittgenstein, Remarques sur les fondements des math�matiques, trad. M.A.Lescourret (�dition revue et augment�e, �d.Gallimard), 1983, cinqui�me partie : 53, p.252.
3) Wittgenstein, Ibid., deuxi�me partie : 23, pp.126-127.
4) Wittgenstein ; philosophisch Untersuchungen (Investigations philosophiques), 116.
5) Wittgenstein, Ibid., 38.
6) لمزيد من الشرح بخصوص هذه المسألة، انظر:
Bertrand Russell, Histoire de mes id�es philosophiques, trad. Fran�aise : G.Auclair, �d. Gallimard/coll. T�l, 1961, Chap.v, pp.67-80.
7) Wittgenstein, Tractatus Logico-philosophicus, 555.5562, L.Wittgenstein Werkausgabe Band I, Frankfurt am main, Suhrkamp, 1990 (mit : philosophische Untersuchungen).
            - Tractatus trad. Fran�aise : P.Klossowski (�dit� avec : Investigations philosophiques, op.cit.).
8) Tractatus, 5.5571.
9) يرفض راسل، كما هو معلوم، الإقرار بالأشياء "البسيطة" رغم تسليمه بوجود وقائع ذرية؛ وهذا يتماشى، إلى حد كبير، مع الصورة التي يكونها حول التحليل. فهذا الأخير يتم في رأيه وفق مراحل متتابعة لا تعرف الانقطاع. لهذا لا يمكن البت نهائيا في وجود أو عدم وجود وحدات لا تقبل القسمة؛ فليس من الإحراج في شيء الانتهاء إلى بنية ذات وحدات مركبة بعد الإقرار بدءا ببساطتها لأن ذلك في نظر راسل أشبه ما يكون بالمثال الرياضي التالي: إنك تستطيع أن تعرف النقط باعتبارها فئات من الواقع؛ ورغم ذلك فهذا لا يفضي إلى بطلان أية مبرهنة من مبرهنات الهندسة التقليدية التي تعالج النقط باعتبارها وقائع بسيطة.
10) Ch. A ce propos : Russell, Histoire de mes id�es philosophiques,op.cit., p.279.
11) لن نخوض، في هذه الدراسة، في مقارنة دقيقة بين راسل وفيتجنشتين لأن ذلك يتعدى حدود مقالنا، إذ أن ذلك يتطلب تحديد طبيعة "الموضوعات" التي تتناولها الرسالة وعلاقتها بذرية راسل. حسبنا هنا أن نعرف بأن الرسالة قد استوحت بعض أفكار راسل التحليلية.
12) cf. Tractatus, 4.2211.
13) ينبغي التذكير بأن الأسماء Vamen تحقق في الرسالة المنطقية الفلسفية شرط "البساطة" لأنها "دليل أصلي"؛ وحيث إنها كذلك فإنها من غير الممكن تحليلها إلى أجزاء أبسط منها. فهي إذن لا تقبل التفكيك أو التقسيم بواسطة أي تعريف. وهذا بالضبط ما تقوله الشذرة 3.26 من الرسالة: "لا يمكن للاسم أن يقسم بواسطة أي تعريف "der Name ist durch Keine Definition weiter zu zergliedern  إنه دليل أصلي" انظر أيضا الشذرة 3.261.
14) Wittgenstein, Tractatus : Vorwort, S.9 (texte fran�ais : pr�face, p.27.
15) هذا لن يمنع فيتجنشتين من استخدام مفهوم "الترنسندنتالي" Transzendental في الرسالة. ففي الشذرة 6.13 يقول: "إن المنطق ليس مذهبا [أو نظرية] Lehre بل صورة منعكسة للعالم ein Spiegelbild der Welt. إنه ترنسندنتالي". وليس من شك في أن وصفه للمنطق بهذه الخاصية، يرجعنا إلى التعريف الكانطي الذي يطلق اسم الترنسندنتالي على كل معرفة لا تحمل بشكل عام على الموضوعات بل على كيفية معرفتنا لها من حيث هي ممكنة على نحو قبلي. إن ما يثير الانتباه في هذه الشذرة هو أن فيتجنشتين لا يفرق بين المنطق الصوري والمنطق الترنسندنتالي، على خلاف كانط الذي يفرق بينهما كما هو معلوم. أما سر ذلك فلا يعود ربما إلى تجاهله لأصل التقسيم الكانطي وإنما إلى إدراجه جميع أنواع المنطق في صنف واحد. ولعل نعت المنطق بكونه "صورة منعكسة للعالم" يحمل جوابا لهذا المشكل. فكل ما هو قبلي من حيث إنه تحليلي، لا يوسع محتوى معارفنا، وقد لا يرقى إلى مستوى معرفة لأنه ليس إلا نتاجا للانعكاس حول المعرفة. لهذا يربط فيتجنشتين في الشذرة السابقة بين الطابع الترنسندنتالي للمنطق وبين كونه "صورة منعكسة للعالم". ولعله يأخذ بنفس التصور حين يقول في الشذرة 6.421 بأن الأخلاق لا يمكن أن تعبر عن نفسها بنفسها es est Klar, dass sich die Ethik nicht aussprechen, l�sst؛ فهي إذن ترنسندنتالية شأنها في ذلك شأن الإستطيقا. أما تفسير ذلك فنجد قسما منه في الشذرتين 6.41 و6.42 حيث يبين بأن قضايا الأخلاق والإستطيقا "تقيم خارج كل حدث وكل وجود بما هو كذلك" ausserhalb alles Geschehens und So-Seins liegen وبالتالي خارج العالم. وهذا هو الذي يبرر لجوءه إلى مفهوم "الترنسندنتالي": فمتى علمنا أن قضايا الأخلاق والإستطيقا والمنطق لا تساهم في معرفة الوقائع التجريبية لأن اهتمامنا بها ينحصر عند حدود كيفية معرفتنا لها، ولا يتعداها إلى وقائع وموضوعات العالم، متى علمنا ذلك فقد أدركنا طابعها الترنسندنتالي.
16) Wittgenstein, Tractatus, 5.62.
17) Wittgenstein, Grammaire philosophique, trad. Fran.: M.-A.Lescourret, �d. Gallimard, 1980, VI, 71, p.p.123-124 (Nous soulignons).
18) Wittgenstein, philosophische Untersuchungen, 119.
19) فعلا، تثير الشذرة 119 من المباحث الفلسفية كثيرا من النقاش في أوساط المتخصصين في فيتجنشتين. ويكفي الوقوف هنا، بشأن هذه الشذرة، على التعارض الواضح بين قراءة غارت هاليت Garth Hallett وقراءة ميريل ب.هنتيكا Merril B.Hintikka وجاكو هنتيكا Jaakko Hintikka: فهذه الشذرة تدل حسب غارت هاليت على تخلي فيتجنشتين في فلسفته الثانية عن فكرة "حدود اللغة" وإدراجها ضمن هفوات الرسالة. أما تعليله لهذه القراءة فيستند على وجود ارتباط قوي بين أطروحة "حدود اللغة" وبين القول بوجود قواعد منطقية ولسانية صحيحة ضابطة للغة؛ والرسالة تؤكد في تصوره هذا الارتباط لأنها تجعل من "حدود اللغة" مفعولا لوجود قواعد منطقية سليمة ودقيقة. أما المباحث الفلسفية فهي تتخلى في رأيه عن الدفاع عن فكرة القواعد الدقيقة؛ مما يدعو غارت هاليت إلى استنتاج آخر مفاده أن فيتجنشتين قد تخلى، في فلسفته الثانية، عن أطروحة حدود اللغة لأن القول بهذه الأطروحة لا ينسجم مع القول بانتفاء قواعد دقيقة للغة. هذا الاستنتاج هو الذي يرفضه جاكو وميريل هنتيكا لأنهما لا يريان تبريرا لتأويل غارت هاليت، سيما أنهما يدرجان "حدود اللغة" ضمن "لا تعبيرية القواعد الدلالية" l�ineffabilit� des r�gles s�mantiques وليس ضمن القواعد التي تضبط لغة صحيحة وسليمة على المستوى المنطقي.
21) Wittgenstein, Tractatus, 4.15.
22) يدل الفعل الألماني Zeigen على معنى الإشارة إلى الشيء كأن يشير المرء بيده إلى موضوع معين ليدل الآخر عليه؛ وهذا حال الشخص الذي يدل شخصا آخر على الطريقden Weg zeigen. كما يدل أيضا على معنى "الإظهار" و"الإبراز" كحال الشخص الذي يكشف ويفصح عن سعادته seine Frende zeigen. ونحن نظن أن فيتجنشتين يستعمل فعل zeigen بهذين المعنيين معا.
23) Wittgenstein, Tractatus, 4.121.
24) cf Merril B. Hintikka et Jaakko Hintikka, Investigations sur Wittgenstein, trad. de l�anglais : M.Jawerbaum et Y. Pesztat, �d. Mardaga, 1991, Li�ge, Chap. I : particuli�rement p.p.26-30.
25) Ch. Tractatus, 5.524.
26) cf Merril B. Hintikka et Jaakko Hintikka, Investigations sur Wittgenstein, op.cit., p.p.29-30.
27) Tractatus, 6.522.
28) لتفصيل الحديث عن "صوفية" الرسالة، يمكن الرجوع على سبيل المثال إلى:
Jacques Bouveresse, Wittgenstein : La Rime et la Raison: � Mysticisme et logique �, �ditions de Minuit, 1973, p.p.21-72.
29) Tractatus, 6.44.
30) Ibid, 6.54.
31) Wittgenstein, Remarques philosophiques, trad. J.Faure, �d. Gallimard/coll. Tel, Chap. V, 54, p.82.
32) يقول فيتجنشتين: "إذا كان لا شيء يشد انتباهنا حين ننظر حولنا أوحين نتنقل في المكان داخل الأرجاء التي تحيط بنا أوحين نحس جسدنا، فهذا شيء يبين إلى أي حد تبدو لنا هذه الأشياء طبيعية [...] إننا لا نفكر فيها على الإطلاق -وهذا أمر مستحيل مع ذلك- لأنه لا توجد صورة مناقضة تتعارض مع صورة عالمنا" (Wittgenstein, Remarques philosophiques, op.cit., Chap. V, 47.).
33) Wittgenstein, Remarques philosophiques, Chap. V, 54, p.83.
34) Wittgenstein, Ibid., Chap. V, 47, p.p.78-79.
35) اطلعنا على هذا التصور الذي تبناه ماسلاو من خلال الخلاصة المقتضية التي قدمها عنه جاك بوفريس Jacques Bouveresse، انظر:
Jacques Bouveresse, Wittgenstein : La Rime et la Raison, op. cit., p.p.59-61.
36) هناك فعلا كثير من التأويلات التي قدمت لتفسير أسباب إدراج نزعة "الانعزال الذاتي" من قبل الرسالة، وهي تأويلات من التباين بحيث يبدو فيها فيتجنشتين تارة مدافعا عن هذه النزعة وتارة أخرى معاديا لها. وإذا اقتصرنا على نموذجي جاكو هنتيكا وجاك بوفريس فسنرى بأن هنتيكا يدرج هذه النزعة ضمن تصور يقضي بأن موضوعات المعرفة تلعب دورا حاسما في أنطولوجيا الرسالة لأنها تضع حدود عالم الذات. أما بوفريس فهو يربط هذه النزعة بمسألة "اللغة الخصوصية" التي ستكون لنا فرصة العودة إليها في مسار هذه الدراسة لكن من زاوية مستقلة عن نزعة "الانعزال الذاتي".
37) Tractatus, 5.63.
38) Ibid, 5.62.
39) cf. Ibid, 5.634.
40) cf. Ibid, 5.64.
41) Wittgenstein ; Investigations philosophique, op.cit., chap. VI, 72. 
42) Wittgenstein, Grammaire philosophique, op.cit., chap. VI, SS :72.
43) Cf. Wittgenstein, Ibid., Chap. VI, 77.
44) يرى كل من جاكو هنتيكا وميريل هنتيكا أن رفض فيتجنشتين للغة الورائية هو نتيجة لاقتناعه بشمولية وكونية اللغة. فحيثما أقررنا بأن اللغة واسطة كونية، فإن من غير المجدي الإقرار بحاجتنا إلى لغة ثانية لوصفها. وهذه الأطروحة، التي يدافع عنها هذان الباحثان، تتمتع مع ذلك بتماسك منطقي قوي بالرغم من أن بعض نصوص فيتجنشتين قد تفسح المجال لأكثر من تأويل. انظر:
Merril B. Hintikka et Jaakko Hintikka, Investigations sur Wittgenstein, op.cit., p.p.43-46.
45) Wittgenstein, Le cahier bleu, �dit� ensemble avec : Le cahier brun, trad. de l�anglais : G.Durand, �d. Gallimard/coll. Tel, 1965, p.85.
46) حين يميز فيتجنشتين بين ما يقال وما يكتفى بإظهاره أو الإشارة إليه، لم يكن يقصد إطلاقا الاعتراف بأن اللغة تخفي شيئا من "النقص"، تماما مثلما أنه لم يكن يهدف إلى التوكيد على "اكتمال اللغة" لأن الإشكالية التي يخوض فيها ليست لا هذه ولا تلك. ولهذا السبب ينبغي الحرص على عدم تأويل أطروحة فيتجنشتين هاته تأويلا شبيها بذلك الذي تعيه فلسفات الاختلاف وفلسفات اللاوعي للغة. فاللغة حسب هذه الفلسفات تقوم على فكرة "النقص" و"الغياب" و"الفراغ" إما لأنها نتيجة "آثار" و"اختلافات" تحول على الدوام دون "حضورها" و"مثولها أمام نفسها" وإما لأنها دائمة "التباين" و"التباعد"عن ذاتها بفعل البون نفسه الذي يقوم عليه مفهوم اللاشعور. غير أنه ينبغي أن نوضح بأن النموذج الذي نعنيه هنا بالتحديد هو موريس بلانشو Maurice Blanchot: فلهذا الأخير مقال تحت عنوان "مشكلة فيتجنشتين"، لا يعرض فيه مباشرة تصور فيتجنشتين للغة بقدر ما يعرض فيه تصور فلوبير Flaubert ورايمون روسيل Raymond Roussel انطلاقا من مفهوم "النقص". لكن حديثه عن فيتجنشتين يأتي بالضبط من مستوى اقتناعه بأن "مشكلة فيتجنشتين" تقترب كثيرا من المشكلة التي واجهت فلوبير ومالارمي، أي مشكلة اللغة والآخر حيث يتعين على الآداب أن تبين بأن هذا "الآخر"، الذي يخالف اللغة، هو دوما موضوع من قبل اللغة نفسها سواء من حيث هو هذا المنفذ الذي تبحث عنه للاختفاء فيه أو من حيث هو هذا الخارج Le Dehors الذي تود أن تنعكس فيه على نفسها. ويلاحظ، في نفس هذا السياق، أن اللغة حين تستدير للإجابة لنداء الآخر فهي تستجيب "للغة أخرى" لها بدورها "آخرها" الخاص بها... وهكذا دواليك. وهذا في رأيه شبيه بالمشكلة التي اعترضت فيتجنشتين وصححها راسل: المشكلة التي تقضي بأن لكل لغة بنية لا يمكن بذاتها أن تتحدث عنها بل تحتاج إلى لغة أخرى للقيام بذلك. بيد أنه إذا كان يصح لبلانشو أن يؤسس تصور مالارمي وفلوبير وروسيل على فكرة "النقص" التي تقتضيها اللغة، فإنه لا يصح له أن يؤسس تصور فيتجنشتين على نفس المفهوم لا فقط لأن منطق الرسالة يستبعد اللغة الورائية بل أيضا لأن هذا غريب عن المفاهيم التي يتداولها بلانشو في حديثه عن اللغة. انظر:
Maurice Blanchot, � Le probl�me de Wittgenstein � in : l�entretien infini, �d. Gallimard, 1969, p.p.487-497.
47) Wittgenstein, De la certitude (�ber Gewissheit), trad. J.Fauve, �dition due aux soins de G.E.M. Anscombe et de G.H. Von Wright, �d. Fallimard, coll. Id�es, 1976, 501.
48) Tractatus, 5.5563.
49) Ludwig Wittgenstein und der Wiener Kreis, notes de F.Waisman, publi�es par B.F. Mc Guinness, B.Blackwell, Oxford, 1967, cit� in : Jacques Bonveresse, le mythe de l�int�riorit�, �d. Minuit, deuxi�me �dition, 1987, p.249.
بخصوص التمييز بين هاتين اللغتين، انظر على سبيل المثال لا الحصر:
50) Wittgenstein, Remarques philosophiques, Chap. V :52, chap. VI :57.
51) Wittgenstein, philosophische Untersuchungen, 656.
52) Wittgenstein, Ibid, 129.
53) Wittgenstein, Tractatus, 4.002.
54) Ibid, 6.53.
55) Ibid, 5.61.
56) تتضمن المباحث الكثير من الفقرات التي تفحص معنى العبارات المستخدمة في اللغة الطبيعية، وتحصر سياقات استعمالها. وهذه الفقرات هي من التعدد بحيث يصعب إحصاؤها على نحو دقيق. انظر على سبيل الحصر:
            philosophische Untersuchungen, 59-60, 253-254, 261.
57) Tractatus, 4.002.
يقول فيتجنشتين في آخر هذه الشذرة: "إن التوفيقات المضمرة لفهم اللغة المألوفة هي جد معقدة" die stillschweigenden Abmachungen zum Verst�ndnis der Ungangssprache sind enorm kompliziert.
58) cf. A ce propos : Tractatus, 3.323, 3.324, 3.325.
59) cf. philosophische Untersuchungen, ss 124.
60) cf. Ibid, 494.
61) Ludwig Wittgenstein und der Wiener Kreis, cit� in : Bonveresse, le mythe de l�int�riorit�, op.cit., p.252.
62) Wittgenstein, philosophische Untersuchungen, 469.
Fauve, �dit�es par G.E.M. Anscombe et G.H. Von Wright, �d. Gallimard, 1970, 55.
64) Wittgenstein, Grammaire philosophique, chap. I, 13.
65) Cf. Wittgenstein, Ibid, Chap. VII, 110-111.
66) Wittgenstein, Ibid., Chap. VIII, 11 (nous soulignons).
67) Cf. Wittgenstein, philosophische Untersuchungen, 81.
يلاحظ في هذه الشذرة أن فيتجنشتين يستعمل "الحساب" و"ألاعيب اللغة" جنبا إلى جنب؛ لكن ما يثير الانتباه هو أنه يقيد حديثه عن "الحساب" بوجود "قواعد ثابتة" أو"قواعد محددة" على اعتبار أن الشخص الذي ينطق بجملة ما بالمعنى الذي يقصده هو أو يفهمه هو، إنما ينجز في الواقع حسابا انطلاقا من قواعد محددة. أما بخصوص التقارب بين الحساب واللعب في فلسفته الانتقالية (الذي أشرنا إليه في الفقرة أعلاه)، فيمكن الرجوع مثلا إلى:
            Grammaire philosophique, chap. II, 31.
69) Wittgenstein, Fiches, op.cit., 318.
70) Wittgenstein, philosophische Untersuchungen, 31.
71) Cf. philosophische Untersuchungen, teil II : XI, s.529-530 (Investigations philosophiques, trad. fran., deuxi�me partie : XI, p.332).
72) Wittgenstein, fiches, 320.
73) تذكر بأن كانط يميز في نقد العقل الخالص بين "مبادئ تكوينة" konstitutren Prinzipiern و"مبادئ تنظيمية" regulativen Prinzipien ولا يبعد أن يكون سورل قد استوحى تقسيمه السابق للقواعد من روح هذا التمييز الكانطي.
74) للتوسع في هذين النوعين من القواعد اللذين يتبناهما سورل، يمكن الرجوع إلى:
            John R. Searle, Les actes de langage, trad. H�l�ne Pauchard, �d. Hermann/collec. � Savoir �, Paris, 1972, p.72 sq.
75) نجد هذه المقارنة بين فيتجنشتين وسورل واردة بشكل واضح جدا عند بوفريس، انظر:
Jacques Bouveresse, La parole malheureuse: �ditions de Seuil, 1971, p.p.349-358.
76) Jacques Bonveresse, le mythe de l�int�riorit�, op.cit., p.26.
77) لا ينبغي أن يغيب عن بالنا أن بوفريس حين ألف كتابه هذا (أنهى كتابته سنة 1974)، كانت الفلسفة الفرنسية في غمرة نقاش كبير كان مفهوم الذات أحد محاوره الرئيسية. وهو نفسه لا يخفي، في تصديره للطبعة الثانية (1987)، أن المناخ الفلسفي السائد في فرنسا كان يحتم التساؤل عن مساهمة فيتجنشتين في نقد فكرة الذات مع كل تبعاتها السيكولوجية. وبصرف النظر عن مدى قدرة التأويلات، التي قدمها هذا الكتاب، على مواكبة القراءات الجديدة التي ما فتئت تتوالى، وبشكل سريع، من قبل شراح فيتجنشتين الأنجلوسكسونيين، فإن قيمة هذا المؤلف تتمثل في تسليط الضوء على جملة من القضايا التي درس فيها فيتجنشتين تجارب داخلية وخصوصية كالاعتقاد و"الإحساس بالألم" و"الفهم" و"الرؤية".. إلخ، لتعرية أسسها وخلفياتها الذهنية من جهة وبيان أن طرحها لا يستقيم إلا داخل ألاعيب اللغة من جهة أخرى؛ فضلا عن أن الكاتب يفسح المجال لعقد مواجهة بين أطروحات فيتجنشتين وأطروحات رموز فلسفات الوعي (وبالخصوص ديكارت وهوسرل). وإلى جانب كل هذا، فإن تصدير بوفريس يطرح، في تقديرنا، مسألة بالغة الأهمية، لها ارتباط وثيق بتاريخ الفلسفة: فهو يثير الصعوبة التي تواجهها الفلسفة الفرنسية في تحديد منزلة فيتجنشتين لأنها برأيه تظل عاجزة عن فهم فلسفته خارج الخط الذي قاد الفلسفة الغربية من كانط إلى هيدجر كما لو أن كل الفلسفات ينبغي أن تمتثل بالضرورة لنفس هذا الخط.
78) Wittgenstein, De la certitude, op.cit., 90.
79) cf. Wittgenstein, Ibid, 18 et 579.
80) يقدم فيتجنشتين عدة أمثلة على هذه اللغة الخصوصية "privat Sprache" كالإحساس بالألم والاعتقاد... وما إلى ذلك من المواقف التي تترجم "تجارب معيشية داخلية". يمكن الرجوع بشكل خاص إلى:
            philosophische Untersuchungen, 243-315.
81) Cf. Wittgenstein, philosophische Untersuchungen, 257.
82) Merril B. Hintikka et Jaakko Hintikka, Investigations sur Wittgenstein, p.277.
83) Tractatus, 4.003.
84) Wittgenstein, Remarques philosophique, Chap. I, 9.
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق